الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فَاسِدًا شَرْعًا
فَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ عِوَضًا فَصَالَحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَعَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُنْقَضُ بِهَلَاكِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْفَسْخِ، فَإِنَّ إقَالَةَ السَّلَمِ بَعْدَمَا صَحَّ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ كَانَ دَيْنًا، وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ، وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ فَسْخَ الْإِقَالَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَمْ يَتَخَالَفَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْعِوَضِ قُلْنَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَتَنَاقَضَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِقَالَةِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْإِقَالَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّلَمَ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ بَيْعٌ، وَهُوَ قَائِمٌ بِمَحَلِّهِ بَعْدَ هَلَاكِ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَلَاكُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ لَا يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، فَإِنْ كَانَ لِلسَّلَمِ كَفِيلٌ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ حِينَ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بَرِئَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْهُ لَمْ تَصِحَّ الْإِقَالَةُ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ لَكِنَّهُ دَيْنٌ آخَرُ لَزِمَ الْأَصِيلَ، وَلَمْ يَكْفُلْ بِهِ الْكَفِيلُ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنْ السَّلَمِ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ سِوَى رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا أَسْلَمْتَ فِي شَيْءٍ، فَلَا تَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ».
وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ كُرَّ حِنْطَةٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِمَّا بَقِيَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا حَطٌّ، وَلَا إبْرَاءَ عَنْ جَمِيعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ صَحِيحٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَعْضِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ السَّلَمُ كُرَّ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى كُرٍّ رَدِيءٍ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ تَبَرَّعَ بِالتَّأْجِيلِ بَعْدَمَا حَلَّ حَقُّهُ وَتَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ أَيْضًا وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الدَّيْنِ: أَحْسِنْ إلَى الشَّرِيكِ».
وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ كُرَّ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى كُرٍّ جَيِّدَةٍ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ رَبُّ السَّلَمِ دِرْهَمًا فِي رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا نَقَدَهُ الدَّرَاهِمَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي الْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَذْرُوعِ إلَّا أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا، فَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْبُيُوعِ أَعَادَهَا هُنَا، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ كُرَّ حِنْطَةٍ إلَى أَجَلٍ وَالثَّمَنُ دَرَاهِمُ أَوْ شَيْءٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ زَادَهُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَمُ نِصْفَ كُرِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute