مُسْتَهْلَكًا حَقِيقَةً، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ النُّقُودِ لَا يَجُوزُ، حَتَّى إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةِ يَجِبُ رَدُّهُ وَلَكِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهُ دُونَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الصُّلْحِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ قِيمَتَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ فَيَكُونُ هُوَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَكُونُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ، فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِقْدَارُ الْقِيمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ الْحُجَّةَ لِغَيْبَةِ شُهُودِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ حَضَرَ شُهُودُهُ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ إثْبَاتَ حَقِّهِ فِي اسْتِرْدَادِ الزِّيَادَةِ كَالْمَرْأَةِ إذَا خَالَعَتْ زَوْجَهَا، ثُمَّ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْلُفُ، فَإِنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا وَتَصَادَقَا أَنَّ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ الْقِيمَةُ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ مِنْ النُّقُودِ شَرْعًا، فَإِذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِ النُّقُودِ كَانَ رِبًا كَمَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلٌ عَنْ الْقِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ لَجَازَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ عَنْهُ وَبِمُقَابَلَةِ الْقِيمَةِ يَكُونُ مَبِيعًا. وَقَاسَا هَذَا بِشَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ فَيَضْمَنُهُ الْآخَرُ وَصَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الْقِيمَةِ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَصَالَحَ السَّاكِتُ الْعَبْدَ عَلَى أَنْ اسْتَسْعَاهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْمُشْتَرِي فَرَضِيَ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ تَقَدَّرَ شَرْعًا بِمَا أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي فَلَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَغْصُوبَ بَعْدَ الْهَلَاكِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ حَقُّهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ تَرْكَ التَّضْمِينِ بَقِيَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى تَكُونَ الْعَيْنُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ آبِقًا فَعَادَ مِنْ إبَاقِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَوْ كَانَ اكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ كَسْبَهُ، وَلَوْ كَانَ نَصَبَ سِكَّةً فَيَعْقِلُ بِهَا سَيِّدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْكَسْبَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ الْغَاصِبَ مِنْ إبَاقِهِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ هُوَ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ بِهَذَا الصُّلْحِ، فَإِذَا قَالَ: هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute