صُلْحَهُمْ حِينَ رَآهُمْ قَلُّوا وَذَلُّوا قُلْنَا قَدْ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ هَذَا الصُّلْحَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّوَادِرِ أَنَّ صُلْحَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ ضَغْطَةً وَلَكِنْ تَأَيَّدَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ مَلَكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْحَقُّ يَدُورُ مَعَهُ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِمَّا دُونَ النِّصَابِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ مِنْهُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْ النِّصَابِ مِنْ الْمُسْلِمِ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي كُلِّ مَالٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ ضَعْفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى هَذَا وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ رِجَالِهِمْ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ قَالَ: لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا مَالُ الصُّلْحِ وَالنِّسَاءُ فِيهِ كَالرِّجَالِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعًا فِرْيَةً» وَهُوَ نَظِيرُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا شَيْءَ مِنْهَا عَلَى النِّسَاءِ فَإِنْ صَالَحَتْ امْرَأَةٌ عَنْ قِصَاصٍ عَلَى مَالٍ أَخَذَتْ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَاجِبٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْعَهْدُ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ الرِّجَالِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ سَوَائِمِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ مِنْهُمْ. أَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الصَّدَقَةُ وَلَكِنْ تُوضَعُ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ بَنُو تَغْلِبَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ نَسَبًا لَا وَلَاءً فَبَقِيَتْ مَوَالِيهِمْ عَلَى حُكْمِ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» قُلْنَا الْمُرَادُ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ كَرَامَةً لَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوَالِيَ بَنِي تَغْلِبَ لَا يَكُونُونَ أَعْلَى حَالًا مِنْ مَوَالِي الْمُسْلِمِينَ وَمَوْلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ أَوْلَى.
(قَالَ) وَمَا أُخِذَ مِنْ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا صَالَحَهُمْ قَالَ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ مَعْنَاهُ جِزْيَةٌ فِي حَقِّنَا فَنَضَعُهُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَدَقَةٍ حَقِيقِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذَا التَّقَرُّبِ وَهُوَ جِزْيَةٌ مَعْنًى فَالْجِزْيَةُ اسْمٌ لِمَالٍ مَأْخُوذٍ بِسَبَبِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّضْعِيفِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يَسْقُطَ إذَا أَسْلَمُوا فَلِهَذَا يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute