للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً: الْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيِهِ وَعَمَلِهِ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ، وَرَأْسِ مَالِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّصَرُّفِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ هَذَا الْعَقْدَ مُقَارَضَةً وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُقَارَضَةً، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَصَاحِبُ الْمَالِ قَطَعَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ عَنْ تَصَرُّفِهِ وَجَعَلَ التَّصَرُّفَ فِيهِ إلَى الْعَامِلِ بِهَذَا الْعَقْدِ فَسُمِّيَ بِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا اللَّفْظَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: ٢٠] يَعْنِي السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ، وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ عُرِفَ بِالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ فَمِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ: أَنَّ «الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا، وَأَنْ لَا يَنْزِلَ وَادِيًا، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ. فَبَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فَاسْتَحْسَنَهُ».

وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً شَرَطَ مِثْلَ هَذَا. وَرُوِيَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدِمَا الْعِرَاقَ وَنَزَلَا عَلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَوْ كَانَ عِنْدِي فَضْلُ مَالٍ لَأَكْرَمْتُكُمَا وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَابْتَاعَا بِهِ، فَإِذَا قَدِمْتُمَا الْمَدِينَةَ فَادْفَعَاهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكُمَا رِبْحُهُ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: " هَذَا مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَرِبْحُهُ لِلْمُسْلِمِينَ " فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: " لَا سَبِيلَ لَك إلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَالَ لَوْ هَلَكَ كُنْت تُضَمِّنُنَا. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -: " اجْعَلْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبَيْنِ، لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِلْمُسْلِمِينَ نِصْفُهُ فَاسْتَصْوَبَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: " قَالَ كَانَ لَنَا مَالٌ فِي يَدِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ تَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً فَبَارَكَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ لِسَعْيِهَا. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدْفَعُ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً عَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَاهُ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً وَقَالَ لَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا؟ فَعَمِلَ بِهِ بِالْعِرَاقِ وَكَانَ بِالْحِجَازِ، الْيَتِيمُ كَانَ يُقَاسِمُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالرِّبْحِ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْيَتَامَى، وَأَنَّ لِلْمُضَارِبِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ الْمُسَافَرَةَ بِمَالٍ الْيَتِيمِ فِي طَرِيقٍ آمِنٍ أَوْ مَخُوفٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْقَوَافِلُ مُتَّصِلَةً، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَى زَيْدَ بْنَ خُلَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالًا مُضَارَبَةً فَأَسْلَمَهُ إلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>