يَدْفَعْهَا إلَى الْبَائِعِ حَتَّى ضَاعَ، رَجَعَ بِمِثْلِهَا أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا ضَاعَ مِمَّا يَقْبِضُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهُ الْبَائِعَ كَانَ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الرِّبْحِ يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مَا قَبَضَهُ فِي الْمَرَّاتِ كُلِّهَا، وَرَأْسُ الْمَالِ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَصِلَ الثَّمَنُ إلَى الْبَائِعِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ إذَا رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَرَّةً بَعْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَرْجِعْ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ يَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْمُوَكِّلِ مُقْتَضِيًا دَيْنَ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَهُنَا قَبْضُ الْمُضَارِبِ لَا يَكُونُ اقْتِضَاءً لِدَيْنٍ وَجَبَ لَهُ، كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَالْمَقْبُوضُ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقَبَضَهُ، وَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً وَلَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَيْنِ حَتَّى ضَاعَا، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيَغْرَمُ مِنْ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي شِرَاءِ رُبْعِ الْجَارِيَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ الرُّبْعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَفِي شِرَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا كَانَ عَامِلًا لِرَبِّ الْمَالِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَإِذَا دَفَعَ الْأَلْفَيْنِ إلَى الْبَائِعِ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ فَبَاعَهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَهُ رُبْعُ ثَمَنِهَا وَهُوَ: حِصَّةُ مَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثَمَنِهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيَأْخُذُ مِنْهَا رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا يَأْخُذُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ رَأْسَ مَالِهِ، وَالرِّبْحُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا أَخَذَ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ كَانَ الْبَاقِي رِبْحًا عَلَى الشَّرْطِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا فَقَدْ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ لِفَوَاتِ مَحِلِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَاعَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ بِالشِّرَاءِ تَحَوَّلَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَهَلَاكُ الْأَلْفِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ مَحِلَّ الْمُضَارَبَةِ.
وَإِنْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً فَضَاعَتْ الْأَلْفُ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ ضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا، وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَا اشْتَرَيْت بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَاكُ ذَلِكَ الْمَالِ عَارِضٌ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي فِيهِ سَبْقَ تَارِيخٍ، وَالْمُضَارِبُ يُنْكِرُهُ، قُلْنَا: هَذَا مُتَعَارِضٌ، فَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي سَبْقَ التَّارِيخِ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ عَلَى هَلَاكِ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُهُ، فَعِنْدَ التَّعَارُضِ كَانَ التَّرْجِيحُ فِيمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ هَلَاكِ الْمَالِ مُحَالًا بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute