للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى خَمْرًا لِمَعْنَى مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» لَا يَكَادُ يَصِحُّ، فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثٌ لَا يَصِحُّ فِيهِنَّ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ فِي جُمْلَتِهَا كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، ثُمَّ مُرَادُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَشْبِيهُ الْمُسْكِرِ بِالْخَمْرِ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ، وَهُوَ الْحَدُّ، فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الْأَسَامِي، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمُسْكِرَ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُشْبِهٌ لِلْخَمْرِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ، وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى يَوْمَ النَّحْرِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنْ السِّقَايَةِ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ قَطَّبَ وَجْهَهُ، وَرَدَّهُ قَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَرَامٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدَعَا بِمَاءٍ، وَصَبَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، وَقَالَ إنَّهُ إذَا اسْتَلْبَثَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْرِبَةِ، فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ»، فَقَدْ كَانَ مُشْتَدًّا، وَلِهَذَا قَطَّبَ وَجْهَهُ، وَرَدَّهُ ثُمَّ لَمَّا خَافَ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَخَذَهُ، وَشَرِبَهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ الْمُثَلَّثِ لَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ.

وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا قَطَّبَ وَجْهَهُ لِحُمُوضَتِهِ؛ لِأَنَّ شُرْبَ السِّقَايَةِ إنَّمَا كَانَ يُتَّخَذُ لِشُرْبِ الْحَاجِّ، وَلَا يُسْقَى الْخَلُّ الْعَطْشَانَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَطَّبَ وَجْهَهُ لِلشِّدَّةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَمْرَ مَوْعُودٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: ١٥]، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ فِي الدُّنْيَا مُبَاحًا يَعْمَلُ عَمَلَهُ لِيَعْلَمَ بِالْإِصَابَةِ مِنْهُ تِلْكَ اللَّذَّةِ، فَيَتِمُّ التَّرْغِيبُ فِيهِ، وَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي الدُّنْيَا يَصِيرُ كَالْأُنْمُوذَجِ لِمَا هُوَ مَوْعُودٌ فِي دَارِ الْآخِرَةِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الشُّرْبَ فِي الْكَأْسِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْآخِرَةِ أَحَلَّ مِنْ جِنْسِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ الْكَأْسِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الزُّجَاجِ، وَالْبَلُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْحِلِّيَّةَ فِي الْآخِرَةِ أَحَلَّ لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ، وَتَقَرَّرَ هَذَا الْحَرْفُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَنَقُولُ إنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ اللَّذَّةِ لِيَكُونَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ عَمَلًا بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ، وَتَعَاطِيهَا لِلْأَمْرِ، وَحَقِيقَةُ تِلْكَ اللَّذَّةِ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْوَصْفِ بَلْ بِالذَّوْقِ، وَالْإِصَابَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ مَا هُوَ حَلَالٌ لِتَصِيرَ تِلْكَ اللَّذَّةُ بِهِ مَعْلُومَةً بِالتَّجْرِبَةِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ يُعْتَبَرُ هَذَا بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالزِّنَا، وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ فِي الْخَمْرِ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، فَأَمَّا هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ، فَفِيهَا مِنْ الْغِلَظِ، وَالْكَثَافَةِ مَا لَا يَدْعُو قَلِيلُهَا إلَى كَثِيرِهَا، فَكَانَ الْقَلِيلُ مِنْهَا مُبَاحًا مَعَ وَصْفِ الشِّدَّةِ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ.

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>