لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ} [النحل: ١٠٦]، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]، فَهُوَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ، وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الشَّعْبِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الرَّجُلِ يَأْمُرُ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا قَالَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: قَائِلٌ: يُقْتَلُ الْعَبْدُ، وَآخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ، وَآخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حُكْمِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْقَتْلِ مُكْرَهًا أَنَّهُ عَلَى مَنْ يَجِبُ، فَإِنَّ أَمْرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ خَالَفَ أَمْرَهُ كَأَمْرِ السُّلْطَانِ فِي حَقِّ رَعِيَّتِهِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ الْقَوْلَ الرَّابِعَ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ، وَإِنَّمَا سَبَقَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاسْتَحْسَنَهُ، وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يَقْطَعُ الْجَوَابَ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَادِثَةِ كَمَا، فَعَلَهَا الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي مِمَّنْ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ، وَيُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِبَيَانِ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَلَا بُدَّ لِلْمُفْتِي مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَصَحَّ الْأَقَاوِيلِ عِنْدَهُ لِلْأَخْذِ بِهِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً، وَبِهِ نَأْخُذُ.
، وَالتَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلَافَهُ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إنَّهُ مِنْ النِّفَاقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: ٢٨]، وَإِجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ مِنْ بَابِ التَّقِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِيهِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّقِيَّةِ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الدَّعْوَةِ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ، وَلَكِنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَقْطَعَ الْقَوْلَ بِمَا هُوَ شَرِيعَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ تَقِيَّةً، وَالْقَوْلُ بِهَذَا مُحَالٌ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً: يَعْنِي إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَإِيثَارِ رُوحِهِ عَلَى رُوحِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ عِظَمُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وِزْرًا، وَأَشَدُّهَا تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّماَوَاتُ يَتَفَطَّرُنَّ مِنْهُ} [مريم: ٩٠] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ، وَجَلَّ {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ، وَلَدًا} [مريم: ٩١]، ثُمَّ يُبَاحُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute