وَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّهُ كَانَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا هَزْلًا لَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مُكْرَهًا، وَكَلَامُهُ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَنْعَدِمُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ بِالْإِلْجَاءِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ طَوْعًا صَحَّ: وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ، فَاسِدٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَصِيرُ مَالِكًا، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ مَا هُوَ رُكْنُ الْعَقْدِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِالْإِكْرَاهِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ فِي مَحَلِّهِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرْطُ الْجَوَازِ، وَهُوَ الرِّضَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩]، وَتَأْثِيرُ انْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ فِي الرِّبَا، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ الْمُسَاوَاةُ كَانَ الْعَقْدُ، فَاسِدًا، وَكَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ.
فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَجْعَلُ الْعَقْدَ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّى بِالْخِيَارِ شَرْطٌ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَيَكُونُ دَاخِلًا عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ السَّبَبِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَائِعَ هُنَاكَ غَيْرُ رَاضٍ بِالسَّبَبِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ، فَلَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِهِ قَبْلَ الشَّرْطِ، فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ بَيْعِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ رَاضٍ بِالسَّبَبِ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِ السَّبَبِ، وَالْخِيَارُ الثَّابِتُ لِلْمُكْرَهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحُكْمِ مُقَيَّدًا لِحُكْمِهِ، فَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ، وَكَذَلِكَ الْهَازِلُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِأَصْلِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ لِلْجِدِّ الَّذِي لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ.
وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ، فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا مَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا مُوجِبًا لِلْمِلْكِ، وَهُنَا الْمُكْرَهُ دُعِيَ إلَى الْجِدِّ، وَقَدْ أَجَابَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِغَيْرِهِ كَانَ طَائِعًا، فَكَانَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ أَقْوَى مِنْ بَيْعِ الْهَازِلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ إذَا صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرَهِ، وَفِي الْبَيْعِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُكْرَهُ مُبَاشِرًا لِلْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ فِي التَّسْلِيمِ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَيَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى الْمُكْرَهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي قُلْت: هُوَ فِي التَّسْلِيمِ مُتَمِّمٌ لِلْعَقْدِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَلْمُكْرِه، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَلْمُكْرِه فِي تَسْلِيمِ ابْتِدَاءِ غَصْبٍ.
وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى تَسْلِيمٍ هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ عَلَى الْمُكْرَهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute