للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَوْفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ فِي أَنَّ الْهَزْلَ، وَالْجِدَّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ شَيْءٍ، وَإِيجَابُ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكُرْهُ، وَالطَّوْعُ، وَالنَّذْرُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّذْرُ يَمِينٌ»، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ التَّلَفُ الْحَاصِلُ بِهِ، وَلَا يُتْلَفُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِهَذَا الِالْتِزَامِ، ثُمَّ الْمُكْرِهُ إنَّمَا أَلْزَمهُ شَيْئًا يُؤْثَرُ الْوَفَاءُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، فَلَوْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا كَانَ يُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا ضَمِنَ فِي الْحُكْمِ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُظَاهِرَ مِنْ امْرَأَتِهِ كَانَ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، ثُمَّ يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ، وَالْهَزْلُ، وَقَدْ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ بِهِ حُرْمَةً مُوَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ، فَكَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ.

فَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ، فَفَعَلَ لَمْ يَرْجِعْ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْ حَقٍّ لَزِمَهُ، وَذَلِكَ مِنْهُ حَسَنَةٌ لَا إتْلَافَ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ عَنْ ظِهَارٍ، فَفَعَلَ عَتَقَ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى إبْطَالِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ كَانَ، وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَالْمَعْدُومِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ إبْطَالَ مِلْكِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، ثُمَّ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِعِوَضٍ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى الْعَبْدِ بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُبْرِئُهُ مِنْ الْقِيمَةِ حَتَّى يَجْزِيَنِي مِنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ نَقْدٌ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَهُ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ، وَبِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ قَالَ: أَعْتَقْتُهُ حِينَ أَكْرَهَنِي، وَأَرَدْت بِهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، وَلَمْ أُعْتِقْهُ لِإِكْرَاهِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ طَائِعًا فِي تَصَرُّفِهِ قَاصِدًا إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْعِتْقَ عَنْ الظِّهَارِ كَمَا أَمَرَنِي، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَجْزِهِ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ الْمُكْرِهَ إلَى مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا، فَإِذَا كَانَ مُكْرَهًا كَانَ التَّلَفُ

<<  <  ج: ص:  >  >>