إلْغَاءُ كَلَامِهِمَا مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا مَا تَوَاضَعَا إلَّا لِيَبْنِيَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُمَا بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا خِلَافُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْعَلْ بِنَاءً كَانَ اسْتِعْمَالُهُمَا بِتِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ اسْتِعْمَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةَ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ فِي الْإِطْلَاقِ، فَيُرَجَّحُ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْمُوَاضَعَةُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جُعِلَ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: بَنَيْنَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَعْرَضْنَا عَنْهَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْخُصُومَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَإِنَّمَا يَشْهَدُ الظَّاهِرُ لِمَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّا نَجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَصَدَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَكِنْ بِإِعْرَاضِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْمُوَاضَعَةِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ بَنَيَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، ثُمَّ أَجَازَ الْعَقْدَ أَحَدُهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي اللُّزُومَ فَدَعْوَى الْبِنَاءِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ كَدَعْوَاهُ شَرْطَ الْخِيَارِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً بَيْنَهُمَا، فَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِبْطَالِهَا بِطَرِيقِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَإِذَا بَطَلَتْ الْمُوَاضَعَةُ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، ثُمَّ اخْتِلَافُهُمَا فِي بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي أَصْلِ الْمُوَاضَعَةِ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ، وَجَحَدَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ لِلْآخَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ مِنْهُمَا، فَالْمُجِيزُ يَكُونُ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ، وَلَكِنَّ خِيَارَ الْآخَرِ يَكْفِي فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَالَ صَاحِبُهُ: قَدْ أَجَزْتُ أَنَا أَيْضًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا خِيَارَهُمَا، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ هَزْلًا مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مُفِيدًا حُكْمُهُ لِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمَا لِلْحُكْمِ، وَقَدْ اخْتَارَا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزَاهُ حَتَّى قَبَضَ الْمُشْتَرِي، فَأَعْتَقَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا شَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ - وَهُوَ الْمِلْكُ - غَيْرُ ثَابِتٍ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِمَا لِلْحُكْمِ بِالْقَصْدِ إلَى الْهَزْلِ، فَتَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِبَارِهِمَا لَهُ، وَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ لَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ فَالْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ لِلْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى الْجِدِّ، فَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِهِ تَلْجِئَةً، فَبَاعَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَيْضًا.
وَلَوْ قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute