لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ نَعَمْ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَّا الْأَوَّل، فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْآخَرُ، فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ»، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَسَعُهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَأَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَتَّى قُتِلَ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الصَّلَابَةَ فِي الدِّينِ، وَلِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الشِّرْكِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جِنَايَةً مَعْنًى عِنْدَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ صُورَةً، وَمَعْنًى سَبَبٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُسْلِمَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْلَى، فَإِنْ قَتَلَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ.
فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ، وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِعِ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِلْجَاءُ فِيهِ، فَيَصِيرُ حُكْمُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ لِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ إذْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الشِّرْكِ حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ مُضَمَّنَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ لَهُ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، فَهُوَ يُتَحَرَّزُ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ سَبَبُهَا خَفِيٌّ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ لَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْقَوَدَ لِلشُّبْهَةِ، وَالْمَالِ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّقَى لَهُ شُبْهَةٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْكُفْرَ يَسَعُهُ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَضُرُّهُ الْعِلْمُ فِيهَا، وَيَخْلُصُ فِي جَهْلِهِ.
وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ خَمْسُ مَسَائِلَ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَاب الْوِكَالَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ قَصَدَ مُغَايَظَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارَ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَيُبَاحُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ، وَمَالَهُ لِمَا يَكُونُ فِيهِ كَبْتٌ، وَغَيْظٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيُقَاتِلَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ، فَإِذَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَفِي نَفْسِ الْغَيْرِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَوَدِ عَنْهُ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَقْتُلَن هَذَا الْمُسْلِمَ عَمْدًا، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ لِمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute