للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِتَصَرُّفِهِ.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: ٦]، فَقَدْ نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي مَالِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرَ، فَلَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى زَوَالِ وِلَايَتِهِ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْكِبَرِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْحَاجَةُ إذَا صَارَ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ، وَغَيْرِهَا، فَفِي هَذِهِ الْعُمُومَاتِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَسْبَابُهَا شَرْعًا سَفِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَفِيهٍ، وَارْتِكَابُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ اخْتِيَارًا نَوْعٌ مِنْ السَّفَهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ مَعَ السَّفَهِ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ.

وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَجْرَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إتْلَافِ جَمِيعِ مَالِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ، فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ وَفِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا نُثْبِتُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ مُلْزِمٌ وَأَهْلِيَّةُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا، وَالْكَلَامُ الْمُمَيِّزُ بِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَالْمَحَلِّيَّةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ خَالِصَ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ الْمَالِكِ وَبَعْدَ مَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ إلَّا لِمَانِعٍ، وَالسَّفَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْحُرِّيَّةِ، وَالْخِطَابُ فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ السَّفَهِ لَا يَظْهَرُ نُقْصَانُ عَقْلِهِ، وَلَكِنَّ السَّفِيهَ يُكَابِرُ عَقْلَهُ، وَيُتَابِعُ هَوَاهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ، وَكَوْنُهُ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ أَنَّ زَوَالَ الْحَجْرِ، وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ فِي الْأَصْلِ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ إلَّا أَنَّ اعْتِدَالَ الْحَالِ بَاطِنًا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الدَّالَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلِ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ تُقَامُ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ مَقَامَهَا كَمَا أُقِيمَ السَّيْرُ الْمَدِيدُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ، وَأُقِيمَ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ، فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا، وَعَدَمًا فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ الرُّشْدُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَصَابَ ذَلِكَ فِي زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ السَّفَهُ، وَالتَّبْذِيرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى، فَدَارَ مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ بَلْ أَوْلَى.

؛ لِأَنَّ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>