يُسْتَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَلَا تَكَادُ تَصِحُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، أَوْهَمَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» وَلَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى طَرِيقِ الْأَمْرِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ لَكَانَ يَقُولُ أَتَحْلِفُونَ فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ فَعَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ١٦٥] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: ١٦٦] الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَحْلِفُونَ مَعْنَاهُ أَتَحْلِفُونَ كَقَوْلِهِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: ٦٧] مَعْنَاهُ أَتُرِيدُونَ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى مِنْهُمْ الرَّغْبَةَ فِي حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ أَبَوْا أَيْمَانَ الْيَهُودِ وَبِقَوْلِهِمْ: لَا نَرْضَى بِيَمِينِ قَوْمٍ كُفَّارٍ. فَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ فَلَمَّا عَرَفُوا كَرَاهَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ رَغِبُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ بِنَقْلِ الْقَتِيلِ مِنْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى إلَى مَحَلَّتِهِمْ فَصَارُوا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْيَمِينَ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ رُؤَسَاءُ النَّاسِ فَخُوصِمَ إلَيْهِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي مَحَلَّةٍ وَأَبُو قِلَابَةَ جَالِسٌ عِنْدَ السَّرِيرِ أَوْ خَلْفَ السَّرِيرِ فَقَالَ النَّاسُ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُمْ فَنَظَرَ إلَى أَبِي قِلَابَةَ، وَهُوَ سَاكِتٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ قَالَ: عِنْدَك رُؤَسَاءُ النَّاسِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ ثَمَّ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ وَلَمْ يَرَيَاهُ أَكُنْت تَقْطَعُهُ فَقَالَ: لَا قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْت تَرْجُمُهُ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ إلَّا رَجُلًا كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إيمَانِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَسَامَةِ، وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَانْقَادَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أُمَرَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يَقْضُونَ بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْقَوَدُ فِي الْقَسَامَةِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ؛ فَلِهَذَا بَالَغَ أَبُو قِلَابَةَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِي الْقَسَامَةِ يَعْنِي الْأَيْمَانَ مُكَرَّرَةً فِي الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى مَعْنَاهُ لَا تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِالْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ، بَلْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ بَعْدَهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى، ثُمَّ إنَّمَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ هُنَا دُونَ حَالِ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ خَطَأً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute