للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِجُرْحٍ يَعْقُبُهُ زَهُوقُ الرُّوحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ الْقَتْلِ، فَالْقَطْعُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إبَاحَةِ جُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَالْقَتْلُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا حَتَّى إذَا قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ، أَوْ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ: أَنَّ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَّ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا، لَا أَنْ يُقَالَ: كَانَ قَطْعًا فَصَارَ قَتْلًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ يَصِيرَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى إذْ لَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيكِ الْخَشَبَةِ إنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا كَانَ تَحْرِيكًا، وَإِنْ أَلْقَاهَا عَلَى مَا انْكَسَرَ بِهَا كَانَ كَسْرًا.

وَإِنْ أَلْقَاهَا عَلَى حَيَوَانٍ فَمَاتَ بِهَا كَانَ قَتْلًا وَهَاهُنَا لَمَّا انْزَهَقَ الرُّوحُ بِهَذَا الْفِعْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْقَتْلِ فَيَكُونُ هَذَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَزَّ رَقَبَتَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ مَا قَصَدَ قَتْلَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ فِعْلٍ هُوَ حَقٌّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ، أَوْ حَرْبِيٍّ فَأَصَابَ مُسْلِمًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ حَقُّهُ وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ كَانَ غَيْرَ حَقِّهِ، وَالْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ يُبْنَى عَلَى مَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِصُورَتِهِ وَصِفَةُ الْحَقِيَةِ فِي صُورَتِهِ تَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا ادَّعَوْا مِنْ تَمْيِيزِ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ حُكْمًا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ الَّذِي هُوَ قِصَاصٌ فَقَطْ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَنَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ وَأَطْرَافُهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ لِحَقِّهِ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ إنَّمَا يَكُونُ جَزَاءً إذَا كَانَ قَطْعًا لَا إذَا كَانَ قَتْلًا وَطَرَفُ مَنْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ حُكْمًا حَتَّى إذَا قَطَعَ كَانَ الْبَدَلَ لِمَنْ عَلَيْهِ لَا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَهُ وَاسْتِيفَاءُ حَقِّهِ يَكُونُ بِفِعْلٍ هُوَ قَطْعٌ لَا بِفِعْلٍ هُوَ قَتْلٌ قَوْلُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْعَفْوَ، وَالتَّرْكَ فِي وُسْعِهِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: ٢٣٧].

وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْوُسْعِ مَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ وَتَعْزِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فَمُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إيجَادُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَجْزُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا حُرْمَةَ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي نَفْسِهِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَتَقَابَلَ حَقَّانِ حَقُّ هَذَا فِي طَرَفٍ يُسَلَّمُ لَهُ بِلَا خَطَرٍ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ فَتَتَرَجَّحُ حُرْمَةُ النَّفْسِ عَلَى حُرْمَةِ الطَّرَفِ أَوْ يُعْتَبَرُ الْحُرْمَتَانِ فَلِحَقِّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>