يُسْقِطُ ضَمَانَ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الشَّجَّةُ وَلَوْلَاهُ لَمَا صَحَّ الْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ، أَوْ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَإِذَا عُفِيَ عَنْ الشَّجَّةِ صَارَ أَصْلُ السَّبَبِ هَدَرًا، فَالسِّرَايَةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكُونُ هَدَرًا أَيْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَفَوْتُك عَنْ الشَّجَّةِ أَيْ عَنْ مُوجَبِ هَذِهِ الشَّجَّةِ وَمُوجَبُهَا الْقِصَاصُ فِي الشَّجَّةِ إذَا اقْتَصَرَ وَفِي النَّفْسِ إذَا سَرَى فَيُصْرَفُ الْعَفْوُ إلَيْهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِلْغَاصِبِ أَبْرَأْتُك عَنْ الْغَصْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهَا وَرَدُّ الْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِهَا.
وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إذَا أَبْرَأَ الْبَائِعَ عَنْ الْعَيْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ مُوجَبِ الْعَيْبِ، وَهُوَ الرَّدُّ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْ أَنَّ عَبْدًا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ فَصَالَحَ مَوْلَاهُ عَنْ الْقَطْعِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ قَالَ: الْعِتْقُ نَافِذٌ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ، فَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْقَطْعِ صُلْحًا عَنْ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ شَجَّةً مَعَ السِّرَايَةِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِالشَّجَّةِ، وَالْآخَرُ بِهَا وَبِالسِّرَايَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الشَّجَّةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّجَّةُ حَقَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ عَفَا عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطُ الْحَقِّ فَإِذْ صَادَفَ مَا لَيْسَ بِحَقِّهِ كَانَ بَاطِلًا وَبَيَانُهُ إنْ عَفَا عَنْ الْيَدِ وَحَقِّهِ فِي النَّفْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا وَمُوجَبُ الْقَتْلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا لَا حَالُهَا (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ وَبِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَسَرَى إلَى نِصْفِ السَّاعِدِ فَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ هَاهُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ فِي الْيَدِ قِصَاصًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ السِّرَايَةِ وَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، عَفَوْتُك عَنْ الْقَتْلِ، ثُمَّ اقْتَصَرَ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ فَسَرَى وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّهُ عَفَا عَنْ مُوجَبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْقَطْعِ فَمَعْنَاهُ عَنْ قَطْعِ وَاجِبٍ مُقَابِلَ هَذَا الْقَطْعِ لَا عَنْ هَذَا الْقَطْعِ الَّذِي تَحَقَّقَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطْعَ وَاجِبٍ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْقَطْعِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَطْعَ سَبَبُ حَقِّهِ قُلْنَا الْقَطْعُ سَبَبُ حَقِّهِ فِي الْيَدِ لَا سَبَبُ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ، بَلْ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ السَّارِي لَا يَقُولُ أَنَّهُ قَطْعٌ، ثُمَّ قَتْلٌ أَوْ قَطْعٌ يَصِيرُ قَتْلًا بِمَنْزِلَةِ قَنْصٍ يَصِيرُ صَيْدًا، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute