للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} [البقرة: ٢٨٢] الْآيَةَ فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْحِلِّ، وَفِي بَعْضِهَا نَدْبٌ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ فَمَنْ يَقُولُ بِحُرْمَتِهَا إنَّمَا يُخَاطِبُنَا بِمَا يَفْهَمُهُ وَلَفْظُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ حَقِيقَةٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، كَمَا فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: ١١١]، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةَ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: ١٠] وَالْمُرَادُ التِّجَارَةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: ١٩٨] يَعْنِي التِّجَارَةَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِ أَيْدِيكُمْ، وَإِنَّ أَخِي دَاوُد كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ» وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى قَوْله تَعَالَى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: ٥٧].

وَأَقْوَى مَا تَعْتَمِدُهُ أَنَّ الِاكْتِسَابَ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِمُعَارَضَتِهِمْ إيَّانَا فِي ذَلِكَ بِيَحْيَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثُمَّ يَقُولُ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فِي هَذَا لَيْسَ كَغَيْرِهِمْ، فَقَدْ بُعِثُوا لِدَعْوَةِ النَّاسِ إلَى دِينِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ فَكَانُوا مَشْغُولِينَ بِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا عَامَّةَ أَوْقَاتِهِمْ بِالْكَسْبِ لِهَذَا، وَقَدْ اكْتَسَبُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ الْمَرْءُ وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ حَيْثُ مَرَّ بِقَوْمٍ مِنْ الْقُرَّاءِ فَرَآهُمْ جُلُوسًا قَدْ نَكَسُوا رُءُوسَهُمْ فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هُمْ الْمُتَوَكِّلُونَ فَقَالَ: كَلًّا، وَلَكِنَّهُمْ الْمُتَآكِلُونَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَنْ الْمُتَوَكِّلُونَ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُلْقِي الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ وَاكْتَسِبُوا لِأَنْفُسِكُمْ.

وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا لَا يَكْتَسِبُونَ دَعْوَى بَاطِلٌ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ بَزَّارًا وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَعْمَلُ فِي الْأُدْمِ وَعُثْمَانُ كَانَ تَاجِرًا يُجْلَبُ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَيَبِيعُهُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَكْسِبُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ حَتَّى أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ «وَقَالَ لِلْوَازِنِ: زِنْ وَارْجَحْ، فَإِنَّ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ»، «وَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَعْبًا وَحِلْسًا مِنْ يَزِيدَ». «وَاشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَأَوْفَاهُ ثَمَنَهَا ثُمَّ جَحَدَ الْأَعْرَابِيُّ وَقَالَ: هَلُمَّ شَاهِدٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَا أَشْهَدُ لَك

<<  <  ج: ص:  >  >>