يُوجِبُ التَّعْمِيمَ وَقَالَ بَعْدَ هَذِهِ فَعَلَى الْبُصَرَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ طَرِيقَ الْفِقْهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ عَلَى الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالْعِلْمِ خَاصَّةً
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: ١٥٩] وقَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: ١٨٧] الْآيَةَ، فَتَبَيَّنَ بِالْآيَتَيْنِ أَنَّ الْكِتْمَانَ حَرَامٌ وَأَنَّ ضِدَّهُ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ لَازِمٌ فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ عِلْمٌ، فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْكِتْمَانُ فِيمَا بَلَغَهُ فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِظْهَارُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَأَيْتُمْ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ طَعَنَ عَلَى أَوَّلِهَا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ، فَإِنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَوْمَئِذٍ كَكَاتِمِ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»، وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَعَلَى كُلٍّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ نِصَابِهِ وَصَاحِبُ النِّصَابِ وَصَاحِبُ الْمَنْصِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي كُلِّ زَمَانٍ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعُلَمَاءُ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤]، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ فَكَذَا فِي كُلِّ حِينٍ وَمَكَانٍ إنَّمَا يُفْتَرَضُ الْأَدَاءُ عَلَى الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ قَوْلَ مَنْ اشْتَهَرَ بِالْعِلْمِ وَقَلَّمَا يَعْتَمِدُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ وَرُبَّمَا يَسْتَخِفُّ بَعْضُهُمْ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِالْعِلْمِ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَيَانُ عَلَى الْمَشْهُورِينَ خَاصَّةً، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْرَكْت سَبْعِينَ بَدْرِيًّا كُلَّهُمْ قَدْ انْزَوَوْا، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِتَعْلِيمِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ، وَكَذَا عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَمِنْهُمْ مَنْ تَصَدَّى لِلْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَانْزَوَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ بِامْتِنَاعِهِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِلْعِلْمِ ثَمَرَتَيْنِ الْعَمَلُ بِهِ وَالتَّعْلِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَيَكْتَفِي بِثَمَرَةِ الْعَمَلِ بِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَاصِلٌ.
(قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةً لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ مَخْرَجٌ مِنْ الْإِثْمِ) يَعْنِي أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ارْتِكَابِ الْإِثْمِ فَرْضٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: ٣٣] الْآيَةَ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى هَذَا التَّحَرُّزِ إلَّا بِالْعِلْمِ قَالَ، وَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ الْعِلْمَ لَمَا تَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالصَّوَابُ مِنْ الْخَطَأِ وَالْبَيِّنُ مِنْ الْخَفِيِّ يَعْنِي أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَصْلُ الدِّينِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: ٢٤] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: ٨] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا أَحَقَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا مَحَاهُ اللَّهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ التَّمَسُّكُ بِمَا هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute