لِآخَرَ «إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا وَلِلَّهِ عَلَيْك حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ كُلْ وَاشْرَبْ وَالْبَسْ عَنْ غَيْرِ مَخِيلَةٍ» وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَفِيهِ اكْتِسَابُ سَبَبِ تَفْوِيتِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إلَّا بِنَفْسِهِ، وَكَمَا أَنَّ تَفْوِيتَ الْعِبَادَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَرَامٌ فَاكْتِسَابُ سَبَبِ التَّفْوِيتِ حَرَامٌ فَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَيَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ بَعْدَهُ، فَهُوَ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الْأَكْلِ لِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ إذَا كَانَ صَائِمًا أَوْ لِيَكُونَ الطَّعَامُ أَلَذَّ عِنْدَهُ إذَا تَنَاوَلَهُ فَكُلَّمَا كَانَ الْمُتَنَاوِلُ أَجْوَعَ كَانَتْ لَذَّتُهُ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ بِالِامْتِنَاعِ إلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ غَرَضٌ صَحِيحٌ بَلْ فِيهِ إتْلَافُ النَّفْسِ وَحُرْمَةُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَوْقَ حُرْمَةِ نَفْسٍ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ إحْيَاءُ نَفْسٍ أُخْرَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ اكْتِسَابُ سَبَبِ إتْلَافِهَا فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَارَةٌ بِالسُّوءِ، كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهِيَ عَدُوُّ الْمَرْءِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ «أَعْدَى عَدُوِّ الْمَرْءِ بَيْنَ جَنْبَيْهِ» يَعْنِي نَفْسَهُ وَلِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَرَى عَدُوَّهُ فَكَيْف يَصِيرُ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ النَّفْسِ» وَتَجْوِيعُ النَّفْسِ مُجَاهَدَةٌ لَهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَجْهَلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ فِي حَمْلِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَفِي التَّجْوِيعِ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَفْوِيتُ الْعِبَادَةِ لَا حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّفْسَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَمَانَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا مَعْصُومَةً لِتُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ الَّتِي تَحَمَّلَتْهَا، وَلَا تَتَوَصَّلُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْأَكْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا فَأَمَّا الشَّابُّ الَّذِي يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الشَّبَقِ وَالْوُقُوعِ فِي الْعَيْبِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَكْلِ وَيَكْسِرَ شَهْوَتَهُ فَتَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيْكُمْ بِالنِّكَاحِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، وَلِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ بِهِ نَفْسَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي عَلَى مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: فِي تَجْوِيعِ النَّفْسِ إشْبَاعُهَا، وَفِي إشْبَاعِهَا تَجْوِيعُهَا ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: إذَا جَاعَتْ وَاحْتَاجَتْ إلَى الطَّعَامِ شَبِعَتْ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا شَبِعَتْ عَنْ الطَّعَامِ جَاعَتْ وَرَغِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَإِذَا كَانَ التَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ فَرْضًا، وَإِنَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute