للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَذَلِكَ عِبَادَةٌ لَهُمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمَا كَانَ مُبَاحًا، فَهُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هُنَا قِسْمًا ثَالِثًا ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْمَرْءِ، وَلَا عَلَى الْمَرْءِ وَمَا كَانَ هَذَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ إلَّا لِحِكْمَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُهْمَلًا لَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ لَهُ، فَهُوَ مُثَابٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: ٤٤] الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: ٧] وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ٧] أَيْ فَعَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٥].

فَالتَّنْصِيصُ عَلَى نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي يَمِينِ اللَّغْوِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: ٥]، وَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا أَخْطَأَ بِهِ، وَقَدْ انْتَفَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِالنَّصِّ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي ثَلَاثٌ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَا يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ مَا لَا يَنَالُ بِهِ الْمَرْءُ الثَّوَابَ، وَلَا يَكُونُ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُهْمَلًا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْمَرْءِ أَوْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ خَاصٌّ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَا عَلَيْهِ خَاصٌّ فِيمَا يَضُرُّهُ تُجَاهَ الْآخِرَةِ، وَفِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَا لَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مُهْمَلًا

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ مَا يَكُونُ مُهْمَلًا مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ هَلْ يَكُونُ مَكْتُوبًا عَلَى الْعَبْدِ أَمْ لَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَالْفَائِدَةُ مَنْفَعَتُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ الْمُعَاقَبَةُ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَمَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِي كِتَابَتِهِ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: ١٢] الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ مَا يُكْتَبُ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَبْقَى فِي دِيوَانِهِ مَا فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَيُمْحَى مِنْ دِيوَانِهِ مَا هُوَ مُهْمَلٌ وَبَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: ٢٩]، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا صَعَدَ الْمَلَكَانِ بِكِتَابِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ حَسَنَةً يُمْحَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ يَبْقَى جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ»، وَاَلَّذِينَ قَالُوا يُمْحَى الْمُهْمَلُ مِنْ الْكِتَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>