ونَشَأَ مع أبيه "ببيت المقدس"، وكانت لهم دُورٌ وضِيَاعٌ، فتوفي أبوه وهو شابٌّ، فبقيُ مدَّةً، ثم جَذَبَتْهُ سَابِقَة سَعِيدِيَّة، فخطفت من قلبه المحبة الدنياوية، وخرج حاجًّا، ثم جاهد ورجع إلى الموطن، فحَبَّسَ إحدى دَارَيْهِ على الطلبة مع مُعْظَمِ ماله، وجَعَلَ النَّظَرَ فيها إلى يحيى بن مُفَرِّج شَيْخِ أصحابه، وشَرَطَ أنَّ نَصِيبَه منها كأَنْصِبَائِهِمْ، وحبَّس الدار الأخرى على الأيتام الذين لا أَبَ لهم، وضَيْعَةً من ضِيَاعِه ليُنْفَقَ عليهم منها، حتى يتعلَّموا القرآن.
وخرج إلى "دمشق" لأجل كونها حينئذ في طاعة المصريين، واعتكف "بجامع دمشق" أربعين عامًا، وكان يأتيه نصيبُه مع الطلبة فعَيْشُه منه، وتَبَتَّلَ هذه المدة العُظْمَى، وانقطع إلى الله عَالِمًا مُتَعَلِّمًا مُعَلِّمًا، حتى توفي سنة تسعين وأربعمائة، وعليه جُبَّةُ سِمْطٍ سوداء -أخبرني بعضُ أصحابنا أنه بها دَخَلَ مُعْتَكَفَه-، ودَوَاةٍ، وسَطلٍ صُفْرٍ كان يشرب به ويتوضَّأ، قال لي: حَجَّ معي وغَزَا، ونَيَّفَ على التسعين وهو يَكْتُبُ في "المِزْهَرِيِّ" ثمانين سَطْرًا بخطٍّ دقيق، لكنَّ أسنانه تساقطتْ، ومات وما تلَّبس بالدنيا ولا صَحِبَ من أهلها أحدًا، ولا رأى إلَّا من دخل إليه مُتَعَلِّمًا، وملأ أصحابُه الآفاق وأنجب، فنِعْمَ ما نَجَبَ" (١).
وفي هذه الترجمة ما لا يُوجَدُ في غيرها، من تراجم الفقهاء والعلماء والمؤرخين، وحَرِيٌّ بها أن تعتمد، وأن يذكر هذا "السراج" في مصادر ترجمته.