للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي كلامه هذا ما يدل على تعظيمه للصوفية، وفيه تأثر كبير بطريقتهم، فيُوصِي من عجز عن القوت من العابدين أن يندرج في سلكهم، وأن يكون له موضع في رباطاتهم، إن كان يريد التبتل والاجتهاد.

المسألة الثالثة: زُهْدُ ابن العربي وتَأَلُّهُه

كان لرحلة ابن العربي أعظم الأثر في تَشَرُّبِه لطريقة المُتَزَهِّدَةِ، وكان في مصاحبته لهم ومفاتشته لشيوخهم ما أعانه على تفهمه لمقاصدهم، وتفطنه لأغراضهم، وهو يرى اهتبالهم بالذِّكْرِ، واعتناءهم بالعبادة، وانقطاعهم عن الخلق، وأُنسهم بالأعمال الصالحة؛ أُمَم من الناس، جاءت من شرق الأرض وغربها، مرابطة مجاورة، وهو أَمْر لم يعهده في بلاد المغرب والأندلس، ولم يكن حال هؤلاء كما انتشر في بعض أصقاع المغرب؛ من إقبال العامة على ذلك، بل رأى أكابر العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين وهم في تبتلهم وعكوفهم على القُرَبِ، بل رأى من النساء العالمات من قد رابطن بالمسجد الأقصى؛ يَتَعَلَّمْنَ العِلْمَ، ويَتَقَفَّرْنَ الذِّكْرَ، وهذا شيء لم يكن في بلاد المغرب، فكان كل هذا داعيًا لهذا الإمام أن ينظر في هذا الذي يفعلون، وأن يرى لنفسه معهم موضعًا يهتبل فيه بما اهتبلوا به، فما ترك غارًا أو غُوَيْرًا، ولا مُتَعَبَّدًا أو جَبَلًا، ولا قرية أو واديًا؛ إلَّا وعبد ربَّه فيه، مع أُمَمٍ من العابدين والعاكفين والعالمين (١).

قال ابنُ العربي: "وكان الطُّرْطُوشِي يقول لنا: هل لكم في أن نخرج بأنفسنا، ونتبتَّل إلى ربنا، ونعلوَ ظهر جبل نجعله دارنا، ونلتزم فيه العبادة


(١) سراج المريدين: (١/ ٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>