لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ النِّكَاحَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ عِنْدَنَا حَتَّى يُزَوِّجَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَيَكُونَ الْعَبْدُ فِيهِ نَائِبًا عَنْ مَوْلَاهُ، فَهُوَ كَالْحُرِّ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَلَا يُزَوِّجَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُمَا النِّكَاحُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ وَأَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَكَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَجُوزُ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَتَيْنِ عِنْدَهُ يَصِحُّ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْخِيَارُ إلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى: عَنَيْتُ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: نَوَيْتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْبَيَانِ.
(قَالَ:) وَإِذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا أُخِذَ بِالْمَهْرِ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُؤْخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ الْعِفَّةِ بِهِ لِلْعَبْدِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، وَاسْتِدْلَالًا بِمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ يَنْصَرِفَ يَمِينُهُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إذْنُ الْمَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْفَسَادُ وَالصِّحَّةُ صِفَةُ الْعَقْدِ وَالْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، كَالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْوَكِيلِ أَوْ لِلْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ وَالصَّحِيحَ جَمِيعًا، وَهَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ نَحْوَ النَّسَبِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ مَا تَزَوَّجَ فِي الْمَاضِي وَقَدْ كَانَ تَزَوَّجَ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ، وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ، فَأَمَّا هُنَا اعْتِبَارُ إذْنِ الْمَوْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا دَخَلَ بِهَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَقَدْ لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَعِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ، فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute