فَأَفْتَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، فَاجْتَمَعُوا وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بُخَارَى بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَتْوَى، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْكَرَامَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِلَبَنِ الْآدَمِيَّةِ دُونَ لَبَنِ الْأَنْعَامِ، وَشُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ لَا يَثْبُتُ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْأَنْعَامِ بِشُرْبِ لَبَنِهَا فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ بِشُرْبِ لَبَنِ بَهِيمَةٍ، وَهَذَا قِيَاسُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ، وَلَا تَثْبُتُ بِوَطْءِ الْبَهَائِمِ فَكَذَلِكَ هُنَا.
(قَالَ:) وَلَوْ صُنِعَ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي طَعَامٍ فَأَكَلَهُ الصَّبِيُّ، فَإِنْ كَانَتْ النَّارُ قَدْ مَسَّتْ اللَّبَنَ وَأَنْضَجَتْ الطَّعَامَ حَتَّى تَغَيَّرَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِرَضَاعٍ، وَلَا يُحَرِّمْ؛ لِأَنَّ النَّارَ غَيَّرَتْهُ فَانْعَدَمَ بِهَا مَعْنَى التَّغَذِّي بِاللَّبَنِ، وَإِنْبَاتُ اللَّحْمِ، وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ لَمْ تَمَسَّهُ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ هُوَ الْغَالِبُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ، وَلِأَنَّ هَذَا أَكْلٌ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ شُرْبُ اللَّبَنِ دُونَ الْأَكْلِ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ هُوَ اللَّبَنُ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إلْقَاءُ الطَّعَامِ فِي اللَّبَنِ يُغَيِّرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِقُّ بِهِ وَرُبَّمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ لَوْنُهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَيَّرَتْهُ النَّارُ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ لَا يَتَقَاطَرُ اللَّبَنُ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَ حَمْلِ اللُّقْمَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَتَقَاطَرُ مِنْهُ اللَّبَنُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ اللَّبَنِ إذَا دَخَلَتْ حَلْقَ الصَّبِيِّ كَانَتْ كَافِيَةً لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّيَ كَانَ بِالطَّعَامِ دُونَ اللَّبَنِ.
(قَالَ:) وَإِذَا جَعَلَ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي دَوَاءٍ فَأَوْجَرَ مِنْهُ صَبِيًّا أَوْ أَسُعِطَ مِنْهُ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ، فَهَذَا رَضَاعٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ لِيَصِلَ بِقُوَّةِ الدَّوَاءِ إلَى مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ وَحْدَهُ فَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ مَعْنَى التَّغَذِّي بِهِ فَلِهَذَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ.
(قَالَ:) وَإِنْ جَعَلَ اللَّبَنَ فِي مَاءٍ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ، فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ خَلَطَ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ بِلَبَنِ الْأَنْعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مِنْ اللَّبَنِ، إذَا جُعِلَ فِي جُبٍّ مِنْ الْمَاءِ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ
فَأَمَّا إذَا خَلَطَ لَبَنَ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى ثُمَّ أَوْجَرَ مِنْهُ صَبِيًّا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَكْثُرُ بِجِنْسِهِ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَكُونُ لَبَنُهَا غَالِبًا؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا اعْتَبَرَ الْأَغْلَبَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الْأُخْرَى قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute