للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأُولَى، وَالثَّالِثَةَ غَايَةً، وَالْغَايَةُ حَدٌّ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ مِنْكَ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ، فَيَكُونُ الْوَاقِعُ مَا بَيْنَ الْغَايَتَيْنِ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَكُونُ فِي ذَوِي الْمِسَاحَاتِ، فَأَمَّا فِي عُرْفِ اللِّسَانِ إنَّمَا يُرَادُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ دُخُولُ الْكُلِّ، فَإِنَّ الرَّجُلُ يَقُولُ: خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةٍ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُ الْعَشَرَةِ، وَيَقُولُ: كُلْ مِنْ الْمِلْحِ إلَى الْحُلْوِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ تَعْمِيمَ الْإِذْنِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ أَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ، وَلَكِنْ فِي إدْخَالِ الْأُولَى ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ، وَلَا ثَانِيَةَ قَبْلَ الْأُولَى، وَلَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ ابْتِدَاءٍ.

فَإِذَا لَمْ يُوقِعْ الْأُولَى؛ تَصِيرُ الثَّانِيَةُ ابْتِدَاءً فَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهَا أَيْضًا فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ أَدْخَلَتْ الْغَايَةُ الْأُولَى، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذْتُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَقُلْتُ: تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي الْكَلَامُ إلَيْهَا قَدْ لَا تَدْخُلُ كَاللَّيْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: ١٨٧]، وَقَدْ تَدْخُلُ كَالْمَرَافِقِ، وَالْكَعْبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، وَالطَّلَاقُ بِالشَّكِّ لَا يَقَعُ، فَإِنْ: قَالَ أَرَدْت وَاحِدَةً لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ مَا نَوَى، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى أُخْرَى فَفِي الْقِيَاسِ قَوْلُ زُفَرَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ اثْنَتَيْنِ.

وَإِنْ قَالَ: مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ قِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ غَايَةَ نَفْسِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: إلَى وَاحِدَةٍ لَغْوًا، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، أَوْ لَا شَيْءَ فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ لَا شَيْءَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَرْفَ " أَوْ "؛ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيمَا يَتَخَلَّلُهُمَا، وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ هُنَا قَوْلُهُ: وَاحِدَةً، أَوْ لَا شَيْءَ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا، أَوْ لَا شَيْءَ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا اللَّفْظِ، وَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ.

وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَرْفَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ إثْبَاتُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ فَقَدْ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ، أَوْ لَا يَقَعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَأَحَدُهُمَا مَوْجُودٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ، وَقَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ، أَوْ هَذِهِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ ذِكْرُ الْعَدَدِ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْعَدَدَ لَا قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ خَرَجَ ذِكْرَ الْعَدَدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>