للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِزَامِ اللَّعْنِ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ؛ لِأَنَّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ - يُحْبَسُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدٌّ بِلِعَانِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَكَيْف تَكُونُ حُجَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ مِنْ وَاحِدٍ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِهَا فَمِنْ الْخَصْمِ أَوْلَى. وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ مَعَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا فَكَيْفَ يَجِبُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ اللِّعَانَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ عَلَى الزَّوْجِ فَإِذَا امْتَنَعَتْ حُبِسَتْ.

وَالْمُرَادُ مَنْ قَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: ٨] الْحَبْسُ لَا الْحَدُّ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: مِنْ شَرَائِطِ اللِّعَانِ عِنْدَنَا - كَوْنُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، وَهَذَا مِنْهُ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ شَهَادَاتٍ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهَا ثُمَّ لَا يَشْتَرِطُ الْأَهْلِيَّةَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: اللِّعَانُ مِنْ كَلَامِ الزَّوْجِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ.

(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا بَدَأَ بِهِ الْبَابَ فَقَالَ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا لِعَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَامْرَأَتِهِ»، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا بِلَفْظٍ آخَرَ وَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُشَافَهَاتِ فِي تَفْسِيرِهِ (أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ الْمُسْلِمُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ كَافِرَةٌ وَالْكَافِرُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ وَالْحُرُّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ) فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا وَفِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ) وَالْمُرَادُ بِالشُّهَدَاءِ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ مُطْلَقًا، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: ٦] وَهَذَا شَأْنُ شَهَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ، ثُمَّ الْمُسْلِمُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ كَافِرَةٌ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ وَكَمَا أَنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَكَذَلِكَ قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ بِأَنْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَقَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَلَا يَكُونُ قَذْفُهُ إيَّاهَا مُوجِبًا لِلِّعَانِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُوجِبًا حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الْقَاذِفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>