أَنَّهَا لَمَّا مَنَعَتْ بَقَاءَ مِلْكِ النِّكَاحِ مَنَعَتْ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: ٩٢] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: ٩٣] فَقَدْ نَفَى الْبُنُوَّةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْبُنُوَّةُ مُتَقَرِّرَةً انْتَفَتْ الْعُبُودِيَّةُ، وَمُرَادُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ بِذَلِكَ الشِّرَاءُ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ: أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَضَرَبَ فَأَوْجَعَ، وَكَتَبَهُ فَقَرْمَطَ وَإِنَّمَا أَثْبَتِنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى ابْنَتِهِ ثُمَّ إزَالَتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ صِلَةٌ، وَمُجَازَاةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ. فَأَمَّا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمِلْكِ الْحِلِّ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ، وَالْأُمُّ وَالِابْنَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ، وَلَا تَصَوُّرَ لِلْمَلِكِ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا هَذَا مِلْكُ مَالٍ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ، فَيَثْبُتُ لَهُ نَسَبُهُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِهِ - الِاسْتِدَامَةُ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا مَلَكَ أَخَاهُ، أَوْ أُخْتَهُ، أَوْ أَحَدًا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَعْتِقُ إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالْعِتْقُ هُنَاكَ لِلْبَعْضِيَّةِ، وَالْجُزْئِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ زَكَاةِ مَالِهِ فِي صَاحِبِهِ، وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرَفَيْنِ، وَيَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلِيلَةُ صَاحِبِهِ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَا يَتَكَاتَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاكَحَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِاسْمِ الْأُخْتِيَّةِ، وَالْبِنْتِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ، وَلَا تَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ بِهَا، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُرْمَةِ مَعْنَى قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَبُعْدِهَا.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ إنِّي وَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَاشْتَرَيْته، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْتِقَهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَعْتَقَهُ اللَّهُ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ عِلَّةُ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ، كَمَا فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِهَذَا الْعِتْقِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْقَرَابَةِ الْمُتَأَيِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا، وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute