جَعَلَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: ٢٢] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: ٢٣] وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ، مِنْهَا الرَّحِمُ يَقُولُ: قُطِعْت، وَلَمْ تُوصَلْ» وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُنَاكَحَةِ تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ، وَالِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا، فَمِلْكُ الْيَمِينِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِذْلَالِ مِنْ الِاسْتِفْرَاشِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ مِنْ الْقَطِيعَةِ بِسَبَبِ الْمُنَافَرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ وَمَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فِي اسْتِدَامَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ أَكْثَرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْمِلْكِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ: أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، وَبَعْدَ هَذَا لَا يَضُرُّ انْتِفَاءُ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَا دُونَ الْجُزْئِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ مُسْتَقِيمٌ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ فِي مَعْنَى الْقَرَابَةِ بَيْنَ الْجَدِّ، وَالنَّافِلَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ بِالْآخَرِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ كَمَا أَنَّ اتِّصَالَ النَّافِلَةِ بِالْجَدِّ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَلِهَذَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْمِيرَاثِ.
وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِشَجَرَةٍ انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْغُصْنِ غُصْنٌ وَالْأَخَوَيْنِ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِوَادٍ تَشَعَّبَ مِنْهُ نَهْرٌ، وَمِنْ النَّهْرِ جَدْوَلٌ، وَالْأَخَوَيْنِ بِنَهْرَيْنِ تَشَعَّبَا مِنْ وَادٍ فَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبِ بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَهُمَا بِشِعْبٍ، وَاحِدٍ، وَالْأَوَّلُ بِشِعْبَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الْجَدِّ مَعَ النَّافِلَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ الْأَخُ كَالْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشَّفَقَةُ مَعَ الْقَرَابَةِ، وَشَفَقَةُ الْأَخِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ الْجَدِّ، وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَإِنَّهُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَبِهِ فَارَقَ بَنِي الْأَعْمَامِ فَالْوَاسِطَاتُ هُنَاكَ قَدْ كَثُرَتْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَكَانَتْ الْقَرَابَةُ بَعِيدَةً بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ وَلَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ.
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ مَعَ الْمِلْكِ عِلَّةٌ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، وَإِذَا مَلَكَ أَخَاهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ حَقِيقَةً، وَحَقُّ الْآبَاءِ، وَالْأَوْلَادِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبِيهِ إذَا كَانَ مُكْتَسِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا. فَأَمَّا حَقُّ الْأَخِ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَخِيهِ الزَّمِنَ إذَا كَانَ هُوَ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ صَغِيرًا فَإِنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute