فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ كَمَا أَخَذَ الصَّحِيفَةُ مِنْ مَوْلَاهُ يَعْتِقُ يَعْنِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيفَةَ عِنْدَ ذَلِكَ تُكْتَبُ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْكِتَابَةَ وَارِدًا عَلَى الرَّقَبَةِ كَالْعِتْقِ بِجُعْلٍ يَعْتِقُ بِالْقَبُولِ وَهُوَ غَرِيمٌ لِلْمَوْلَى فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ إذَا أَدَّى قِيمَةَ نَفْسِهِ عَتَقَ وَهُوَ غَرِيمٌ لِلْمَوْلَى فِي الْفَضْلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ وُصُولُ قَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْلَى لِيَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرَرُ عَنْهُ وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى فَكَأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى قَوْلِهِ يُعْتِقُ الرَّجُلُ مِنْ عَبْدِهِ مَا شَاءَ وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْبَدَلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ وَرَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ» وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ وَهَذَا لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فِي حَقِّ الْمَكَاسِبِ وَالْمَنَافِعِ لِلْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا يَدًا وَرَقَبَةً فَهُوَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مَالِكِيَّةَ الْيَدِ مِنْ كَرَامَاتِ بَنِي آدَمَ وَهُوَ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الْكَرَامَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ، وَمَالِكِيَّةُ الْيَدِ تَنْفَصِلُ عَنْ مَالِكِيَّةِ الرَّقَبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاهِنَ يُثْبِتُ لِلْمُرْتَهِنِ مِلْكَ الْيَدِ وَأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ فَكَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ فَأَمَّا الْعِتْقُ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ وَالشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً وَلَا يُقَابِلُهُ جُزْءًا فَجُزْءًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ نَظِيرُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْبَدَلِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى حَطُّ شَيْءٍ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: ٣٣] قَالَ رُبْعُ الْمُكَاتَبَةِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَطَّ عَنْ مُكَاتَبٍ لَهُ أَوَّلَ نَجْمٍ حَلَّ عَلَيْهِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّدْبِ فَبِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّدْبُ دُونَ الْحَتْمِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ حَطُّ رُبْعِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدُ إرْفَاقٍ يَجْرِي بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ وَلَا يَقْصِدُ الْمَوْلَى بِهِ التِّجَارَةَ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ إيصَالَهُ بِهِ إلَى الْعِتْقِ فَيَكُونُ إرْفَاقًا وَيَسْتَحِقُّ بِكُلِّ عَقْدٍ مَا كَانَ الْعَقْدُ مَشْرُوعًا لِأَجْلِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَشْرُوعًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute