للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِالْحِنْثِ مَحْظُورٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ فَأَمَّا الْغَمُوسُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِدُونِ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَمَعَ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ قَائِمٌ فَإِذَا حَنِثَ فَقَدْ فَاتَ الْأَصْلُ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِيَكُونَ خَلَفًا، وَيَصِيرَ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّهُ عَلَى بَرَّةٍ.

وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي خَبَرٍ فِيهِ تَوَهُّمُ الصِّدْقِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْهُ، وَفِي مَسِّ السَّمَاءِ هَكَذَا؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ فَلِتَصَوُّرِ الْبَرِّ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ، ثُمَّ لِفَوَاتِهِ بِالْعَجْزِ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ، فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَصَوُّرَ لِلْبَرِّ فَلَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُوجِبًا لِلْخَلَفِ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَلَفًا بَلْ يَكُونُ وَاجِبًا ابْتِدَاءً، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْكَفَّارَةِ وَاجِبَةً بِالْيَمِينِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ كَبِيرَةً بَلْ تَكُونُ سَبَبَ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: ٨٩] إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ مَا هُوَ مُضْمَرٌ فِي الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: ١٨٤] فَأَفْطَرَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤]، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ {بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩] وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَعْقُودَةَ، وَكَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَقَدْتُهُ فَانْعَقَدَتْ، كَمَا يُقَالُ كَسَرْته فَانْكَسَرَ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الِانْعِقَادُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحَلُّ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ قَالَ الْقَائِلُ: وَلِقَلْبِ الْمُحِبُّ حَلٌّ وَعَقْدٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] الْمُؤَاخَذَةُ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْجَزَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ الْآخِرَةُ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا قَدْ يُؤَاخِذُ الْمُطِيعَ ابْتِدَاءً، وَيُنْعِمُ عَلَى الْعَاصِي اسْتِدْرَاجًا، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَبِفَصْلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّهُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَاضِي يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلْكَذِبِ، وَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: أَمْرُ الْغَمُوسِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالْبَأْسُ فِيهِ شَدِيدٌ. مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَأْثَمِ فِيهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْكَفَّارَةِ.

وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ يَمِينُ اللَّغْوِ فَنَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٥]، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَتِهَا فَعِنْدَنَا صُورَتُهَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ اللَّغْوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>