مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي كَانَ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْيَمِينُ اللَّغْوُ يَمِينُ الْغَضَبِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ: قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ» وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِيمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي فَإِنَّ اللَّغْوَ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ، وَالْخَبَرُ الْمَاضِي خَالٍ مِنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَانَ لَغْوًا، فَأَمَّا الْخَبَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَدَمُ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجَدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ «، وَلَمَّا أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاسْتَحْلَفُوهُ أَنْ لَا يَنْصُرَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ لَهُمْ بِعُهُودِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ». وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ قَاصِدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَتَأْوِيلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» رُفِعَ الْأَثِمُ. وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ: اللَّغْوُ هُوَ الْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْيَمِينَ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ عَلَى اللَّغْوِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَمِينُ اللَّغْوِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُحْبَطَةٌ بِالْكَفَّارَةِ أَيْ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ فَإِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مَعْصِيَةً لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالظِّهَارِ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، ثُمَّ كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْعَوْدِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ اللَّغْوُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ (فَإِنْ قِيلَ) فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الرَّجَاءِ بِقَوْلِهِ: نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا، وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ.
(قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنَّ صُورَةَ تِلْكَ الْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالرَّجَاءِ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالنَّصِّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّعْلِيقُ بِالرَّجَاءِ، إنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّعْظِيمَ وَالتَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا مَرَّ بِالْمَقَابِرِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ.» وَمَا ذُكِرَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الشَّكِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَيَقِّنًا بِالْمَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {: إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: ٣٠] وَلَكِنْ مَعْنَى ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute