وَعَقْدُ الْيَمِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِيجَابِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: ١٢]. وَالِاسْتِحْلَافُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَقْصُودِهَا، وَهُوَ النُّكُولُ أَوْ الْإِقْرَارُ وَانْعِقَادُ يَمِينِهِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا مُجِيزًا، فَأَمَّا هَذِهِ الْيَمِينِ مُوجِبُهَا الْبِرُّ لِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْدَ الْحِنْثُ مُوجِبُهَا الْكَفَّارَةُ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ كَاسْمِهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: ١١٤]، وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ صُورَةً فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْحُكْمُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْعِبَادَةُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ كُرْهًا، وَأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ، وَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا التَّطَهُّرُ كَمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا تُقَامُ خِزْيًا وَعَذَابًا وَنَكَالًا، وَمَعْنَى التَّكْفِيرِ بِهَا إذَا جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا مُؤْثِرًا عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فَعَلَهُ مَاعِزٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلِهَذَا يَسْتَقِيمُ إقَامَتُهَا عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ.
رَجُلٌ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ يَنْوِي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بِالْعِتْقِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَيَتَأَدَّى بِهِ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِيهَا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ»
(قَالَ): وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجُوزُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَهُ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَجْهَانِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩]. وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ الْوَصْلِ فَيَقْتَضِي جَوَازَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ مَوْصُولًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيُكَفِّرْ، ثُمَّ لِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يُفِيدَ الْجَوَازَ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ، فَإِنَّهَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ، وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا حَقِيقَةً، وَمَنْ قَالَ عَلَى يَمِينٍ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْتِزَامَ السَّبَبِ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ الْوَاجِبِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْيَمِينُ دُونَ الشَّرْطِ، حَتَّى يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ أَدَاءُ الْحَقِّ الْمَالِيِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute