للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ حَنِثَ فِيهِمَا بِإِيجَادِ الْفِعْلِ مَرَّةً فَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

فَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا إلَى وَقْتِ كَذَا، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْصِيَةٌ يَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَرْتَفِعُ النَّهْيُ بِيَمِينِهِ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ فَإِذَا ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ فِيهَا بِفَوْتِ شَرْطِ الْبِرِّ فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَى أَنْ يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ، وَشَرْطُ الْبَرِّ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُ فِي عُمْرِهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِتُقْضَى بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِسَائِرِ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا.

وَإِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ مُتَّصِلَةٍ مَعْطُوفَةٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاسْتَثْنَى فِي آخِرِهَا كَانَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، فَيُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي إبْطَالِهَا كُلِّهَا اعْتِبَارًا لِلْأَيْمَانِ بِالْإِيقَاعَاتِ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُمَا لِإِبْطَالِ الْكَلَامِ، وَحَاجَةُ الْيَمِينِ الْأُولَى كَحَاجَةِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِاسْتِثْنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ شَرْطًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى تَامَّةٌ بِمَا ذَكَرَ لَهَا مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَلَا يَنْصَرِفُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ آخِرًا إلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْجَامِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي أَوْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَإِيجَابًا، وَإِنْ قَالَ: إلَّا أَنْ لَا أَسْتَطِيعَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَهُوَ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، وَأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي قَدْ اسْتَثْنَى بِهَا لَمْ تُوجَدْ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لَا يَدِينُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ النَّاسَ يُرِيدُونَ بِهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ ارْتِفَاعَ الْمَوَانِعِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: أَنَا مُسْتَطِيعٌ لِكَذَا وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: ٩٧].

وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ هَذَا، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ لَا يُدِينُهُ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا يَعْرِضُ

<<  <  ج: ص:  >  >>