فِي هَذَا الْفَصْلِ يَحْنَثُ إذَا جَمَعَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي سَمَّى فِي السُّكْنَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَجْلِ الْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يُسَاكِنُ فُلَانًا قَرْيَةَ كَذَا وَبَلْدَةَ كَذَا، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَحِينَئِذٍ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي بَيْتٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِيهِ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا، وَأَقَامَ فِيهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسَاكَنَةٍ إنَّمَا الْمُسَاكَنَةُ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَذَلِكَ بِمَتَاعِهِ وَثُقْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ فِي الْمَسْجِدِ كُلَّ يَوْمٍ مِرَارًا، وَلَا يُسَمَّى سَاكِنًا فِيهِ، وَيَدْخُلُ عَلَى الْأَمِيرِ، وَيَكُونُ فِي دَارِهِ يَوْمًا، وَلَا يُسَمَّى مُسَاكِنًا لَهُ فِي دَارِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي دَخَلَ عَلَى فُلَانٍ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا لَا يَكُونُ سَاكِنًا مَعَهُ فِيهِ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَحِينَئِذٍ فِي نِيَّتِهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَامِلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَمُرُّ بِالْقَرْيَةِ فَيَبِيتُ فِيهَا، وَيَقُولُ: مَا سَاكَنْتهَا قَطُّ فَيَكُونُ صَادِقًا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ سَاكِنًا فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ فِيهَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ مُسْتَدَامٌ حَتَّى يَضْرِبَ لَهُ الْمُدَّةَ، وَيُقَالُ: سَكَنَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: ٦٨]. أَيْ لَا تَمْكُثْ قَاعِدًا، فَيَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ السُّكْنَى بَعْدَ يَمِينِهِ كَإِنْشَائِهِ، وَكَذَلِكَ اللُّبْسُ وَالرُّكُوبُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَامُ كَالسُّكْنَى، فَأَمَّا إذَا أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ، أَوْ فِي نَزْعِ الثَّوْبِ أَوْ فِي النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ عَنْهُ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَثْنًى لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، وَهُوَ الْبَرُّ دُونَ الْحِنْثِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْبَرُّ إلَّا بِهَذَا؛ وَلِأَنَّ السُّكْنَى هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالدَّوَامُ فِي الْمَكَانِ، وَالْخُرُوجُ ضِدُّهُ، فَالْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ الْيَمِينِ مَا هُوَ ضِدُّ السُّكْنَى حِينَ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِنَقْلِ الْأَمْتِعَةِ يَحْنَثُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى سُكْنَاهُ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَنْعَدِمُ بِخُرُوجِهِ عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَحُكِيَ عَنْهُ فِي التَّعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، قَالَ: خَرَجْت مِنْ مَكَّةَ، وَخَلَّفْت فِيهَا دُفَيْتِرَاتٍ أَفَأَكُونُ سَاكِنًا بِمَكَّةَ؟
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَاكِنٌ فِيهَا بِثَقَلِهِ وَعِيَالِهِ، فَمَا لَمْ يَنْقُلْهُمْ فَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالثَّقَلِ وَالْمَتَاعِ، وَالْعُرْفُ شَاهِدٌ لِذَلِكَ فَإِنَّك تَسْأَلُ السُّوقِيَّ، أَيْنَ تَسْكُنُ؟ فَيَقُولُ: فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ فِي تِجَارَتِهِ يَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute