للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ شَحْمٌ بِذَاتِهِ، وَيَصْلُحُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الشَّحْمُ، فَكَانَ كَشَحْمِ الْبَطْنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.} [الأنعام: ١٤٦] وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا لَحْمٌ عِنْدَ النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا يَحْنَثُ بِهَذَا، وَكَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ يُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: سَمِينُ اللَّحْمِ وَبِالْفَارِسِيَّةِ فربهن، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ يَمِينَهُ لَوْ كَانَ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا، أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ، ثُمَّ سَمِينُ اللَّحْمِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ فِي اتِّخَاذِ الْقَلَايَا وَالْبَاحَاتِ كَاسْتِعْمَالِ الشُّحُومِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَنْبَنِي عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَفِي الْآيَةِ اسْتِثْنَاءُ الْحَوَايَا أَيْضًا، وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُولُ: أَنَّ مُخَّ الْعَظْمِ يَكُونُ شَحْمًا.

وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا، فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنَّبًا حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ رُطَبًا فِيهِ بَعْضُ الْبُسْرِ، فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنَّبًا، حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا، فَأَكَلَ رُطَبًا، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُذَنِّبُ لَا يُسَمَّى رُطَبًا، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بُسْرًا حَتَّى يَحْنَثَ بِأَكْلِهِ، لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْبُسْرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ رُطَبًا وَبُسْرًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْجَانِبُ الَّذِي أَرْطَبَ مِنْهُ رَطُبَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَيَّزَ ذَلِكَ، وَأَكَلَهُ وَحْدَهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْلِ الْبُسْرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ بُسْرٌ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَإِنْ الرُّطَبَ وَالْبُسْرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَغْلُوبَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ الْأَقَلُّ مُسْتَهْلَكًا بِالْأَكْثَرِ، فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ.

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ شَيْئًا، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ زَبِيبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ دَاعٍ إلَى الْيَمِينِ، فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمَرْءُ مِنْ تَنَاوُلِ الْعِنَبِ دُونَ الزَّبِيبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الرُّطَبِ مَعَ التَّمْرِ؛ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ غَيْرُ الْعِنَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ عِنَبًا، فَجَعَلَهُ زَبِيبًا انْقَطَعَ حَقُّ صَاحِبِهِ عَنْهُ، وَيَمِينُهُ عَلَى عَيْنٍ مَأْكُولٍ، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جَوْزًا، فَأَكَلَ مِنْهُ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا حَنِثَ، وَكَذَلِكَ اللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ وَالتِّينُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الَّذِي عُقِدَ بِهِ الْيَمِينُ حَقِيقَةٌ فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>