للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّأْدِيبُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُعَزِّرُ مَنْ لَا يُخَاطَبُ بِحُقُوقِ اللَّهِ كَالصِّبْيَانِ وَهُوَ نَظِيرُ التَّأْدِيبِ فِي الدَّوَابِّ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ الْخِتَانُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَصِيِّ فِي الدَّوَابِّ لِإِصْلَاحِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَنِ وَالنَّفَقَاتِ فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى حَقِّ الْمِلْكِ مُرَجَّحًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَلَكَ الْمَوْلَى إقَامَتَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ امْرَأَةً كَانَ لَهُ إقَامَةُ التَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ؟ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِيمَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى الْوِلَايَةُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ كَالتَّزْوِيجِ وَبِالِاتِّفَاقِ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ شَاءَ الْمَوْلَى أَوْ أَبَى، عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ وِلَايَةَ إقَامَتِهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ.

وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْحُدُودِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ إذْ الْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِ بِحَالٍ، وَالْعَبْدُ فِي مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَوِلَايَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْمَالِيَّةِ فَأَمَّا فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ جَعَلَ الْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ؟ فَذَلِكَ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ نَظِيرُ الضَّرْبِ فِي الدَّوَابِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ السُّلْطَانِ لَمَلَكَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ بِالضَّرْبِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ.

وَقَوْلُهُ «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» خِطَابٌ لِلْأَئِمَّةِ كَقَوْلِهِ {فَاقْطَعُوا} [المائدة: ٣٨] خِطَابٌ لِلْأَئِمَّةِ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَمَالِيكِ أَنْ لَا تَحْمِلَهُمْ الشَّفَقَةُ عَلَى مِلْكِهِمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ الْمُرَادُ السَّبَبُ وَالْمُرَافَعَةُ إلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى الْمُبَاشِرِ تَارَةً وَإِلَى الْمُسَبِّبِ أُخْرَى، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ وَإِنْ ذُكِرَ عِنْدَ الزِّنَا وَإِنَّمَا أُضِيفَ إلَى مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُرَادُ التَّعْزِيرُ.

وَلَا يَبْعُدُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ كَالزَّانِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُعَزَّرُ لِتَعَمُّدِ الْإِفْطَارِ وَيُحَدُّ لِلزِّنَا، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى مُكَاتَبًا يُعَزَّرُ مَمْلُوكُهُ عَلَى الزِّنَا، ثُمَّ يَرْفَعُهُ إلَى الْإِمَامِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ

(قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ، وَأَنَّ عِنْدَهُ بَيِّنَةً بِذَلِكَ أَمْهَلْته مَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُتَمَثِّلٍ فَيَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ تَضْيِيعُ الْحَدِّ الَّذِي ظَهَرَ سَبَبُهُ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا مَأْمُورٌ بِالْإِقَامَةِ وَالِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ فَلِهَذَا لَا يُخَلَّى عَنْهُ وَلَكِنْ يُمْهِلُهُ إلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ شُهُودِ بَيَانِهِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلَّا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>