شُهُودَهُ لَيْسَ بِحُضُورٍ فِي الْمِصْرِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُ أَيَّامًا لَمْ يُؤَجِّلْهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فَلَيْسَ عَلَى كُلِّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْمَعْنَى كَالتَّضْيِيعِ فَكَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ الْحَدَّ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ إقَامَتَهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ هُنَاكَ تَأْخِيرُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْإِمَامِ كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَدَّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ فِيهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» «وَلِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ فَلَا يُقَامُ فِيهَا حَدٌّ» وَلِأَنَّ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ حَرَامٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ».
وَإِقَامَةُ الْحَدِّ فِي الْمَسْجِدِ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى التَّلْوِيثِ فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِيُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ التَّأْخِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى بَعْضِ الشُّهُودِ أَنَّهُ قَذَفَهُ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ وَيَسْأَلُ عَنْ شُهُودِ الْقَذْفِ، فَإِذَا زُكُّوا وَزُكِّيَ شُهُودُ الزِّنَا بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَدُرِئَ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَدَّانِ وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ فَيَبْدَأُ بِذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِحَدِّ الْقَذْفِ صَارَ شَاهِدُ الزِّنَا مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ وَالْمُعْتَرِضُ فِي الشُّهُودِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ، وَفِيهِ دَرْءُ حَدِّ الزِّنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي، فَإِنْ حَضَرَ الْمَقْذُوفُ وَطَالَبَ بِحَدِّهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَسَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْمَقْذُوفُ لِيُطَالِبَ بِحَدِّهِ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَذْفِ عِنْدَنَا لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ.
فَإِذَا أُقِيمَ حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ جَاءَ الْمَقْذُوفُ وَطَلَبَ حَدَّهُ يُحَدُّ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُسْقِطُ حَقَّهُ فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْخُصُومَةِ لَا يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الزَّانِي سَارِقٌ أَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهَذَا الْقَذْفُ مِنْ الشَّاهِدِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ يَبْدَأُ بِقَسَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنْ أَقَامُوا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فَلَا يَقْضِي بِهَا فَلَوْ بَدَأَ بِقَطْعِ السَّارِقِ أَوْ بِالْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ وَسِعَهُ وَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ فِي قَضَائِهِ الْحُجَّةَ
(قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّاهِدَ آكِلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute