بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
(قَالَ) إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ضَمِنَ الْمَالَ، وَلَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي السَّرِقَةِ أَخْذُ الْمَالِ، فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يُقْضَى بِمُوجِبِ الْأَخْذِ، وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ يَثْبُتُ الْأَخْذُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ فَإِنْ جَاءَ الْمَقْذُوفُ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَهُ سُئِلَا عَنْ مَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ فَالْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِمَا عَنْ بَيَانِ مَا شَهِدَا بِهِ.
فَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ يَا زَانٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَحُدَّ الْقَاذِفُ إنْ كَانَا عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: ٤] وَاتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ٤]، فَإِنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ شَرْطٌ فِي الزِّنَا خَاصَّةً، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك»
(قَالَ) وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي شُهُودَ الْقَذْفِ بِالْعَدَالَةِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ هَتْكِ السِّتْرِ وَأَذَى النَّاسِ بِالْقَذْفِ فَيُحْبَسُ لِذَلِكَ، وَلَا يُكَفِّلُهُ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيلَ لِلتَّوَثُّقِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُكْفَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ مِنْهُ الْكَفِيلَ فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ، وَلَا خِلَافَ لَهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي إيفَائِهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ إقَامَةُ الْكَفِيلِ مَقَامَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِيفَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، فَأَمَّا أَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute