وَالْقَطْعِ بَعْدَهُ بِهَذَا اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا اسْتَحَقَّ قَتْلَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ الْمُرَادَ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ وَحَدُّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَاحِدٌ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي أَجْزَاءِ حَدٍّ وَاحِدٍ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ثُمَّ يَقْتُلَهُ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّغْلِيظِ
وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَدِيثِهِ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَى خُصُومَةٍ فِي الْحَدِّ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ فِي الْحَدِّ فَلَا يُمْتَنَعُ قَبُولُهَا بِتَقَادُمِ الْعَهْدِ
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَجُلٍ أَخَذَ، وَقَدْ نَقَبَ الْبَيْتَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَتَاعَ قَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ مَا لَمْ يَتِمَّ لَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَتَمَامُ السَّرِقَةِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ حَدُّ الزِّنَا إلَّا بِالْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ، وَالْمَقْصُودُ فِي السَّرِقَةِ إخْرَاجُ الْمَالِ دُونَ هَتْكِ الْحِرْزِ، فَإِنْ أَخَذَ قَبْلَ إخْرَاجِ الْمَالِ، فَقَدْ انْعَدَمَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا فِي كَثَرٍ»، وَبِهِ نَقُولُ فَالثَّمَرُ اسْمُ الرُّطَبِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْأَشْجَارِ، وَهُوَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَلَا قَطْعَ عِنْدَنَا فِي سَرِقَةِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ.
(فَإِنْ قِيلَ) الْمُرَادُ ثِمَارُ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ وَهِيَ لَا تَكُونُ مُحْرِزَةً لِقَصْرِ الْحِيطَانِ.
(قُلْنَا) رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَانِعِ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَسْرُوقِ ثَمَرًا، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى مَا قُلْتُمْ تَعْطِيلُ هَذَا السَّبَبِ وَإِحَالَةُ الْحُكْمِ إلَى سَبَبٍ آخَرَ، فَأَمَّا الْكَثَرُ، فَقَدْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجُمَّارُ هَكَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْوَدِيُّ، وَهُوَ النَّخْلُ الصِّغَارُ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ غُلَامًا سَرَقَ وَدِيًّا فَغَرَسَهُ فِي أَرْضِ مَوْلَاهُ فَأُتِيَ بِهِ مَرْوَانَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ فَجَاءَ مَوْلَاهُ إلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ مَرْوَانُ فَقَامَ إلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا فِي كَثَرٍ» فَدَرَأَ الْحَدَّ مَرْوَانُ، وَعَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَلَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ»، وَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَنَحْوُهَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَتِهَا الْقَطْعُ بَعْدَ تَمَامِ الْإِحْرَازِ وَقَبْلَ تَمَامِ الْإِحْرَازِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْقَطْعُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ حَرِيسَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute