فِي لَوْنِ الْبَقَرَةِ لَمْ تُقْبَلْ مَعَ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ الضَّمَانُ فَفِي السَّرِقَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَعَلَّهُ كَانَ أَحَدُ شِقَّيْ الْبَقَرَةِ أَبْيَضَ وَالْآخَرُ أَسْوَدَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ بَلْقَاءُ لَا سَوْدَاءُ وَلَا بَيْضَاءُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: اخْتَلَفَا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفَا نَقْلُهُ وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ شُهُودُ الزِّنَا فِي الزَّانِيَيْنِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ بَيَانِ لَوْنِ الْبَقَرَةِ لَمْ يُكَلِّفْهُمَا الْقَاضِي بَيَانَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وَهَا هُنَا التَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا أَبْيَضَ وَالْآخَرُ أَسْوَدَ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ تُسَمَّى بَلْقَاءُ نَعَمْ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ مَنْ يَعْرِفُ اللَّوْنَيْنِ، أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا أَحَدَهُمَا فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ اللَّوْنِ، وَشُهُودُ السَّرِقَةِ يَتَحَمَّلُونَ الشَّهَادَةَ مِنْ بَعِيدٍ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَقْتَرِبُوا مِنْ السَّارِقِ لِيَتَأَمَّلُوا فِي جَانِبِ الْبَقَرَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْغَصْبَ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ مُجَاهِرٌ بِمَا يَصْنَعُ فَالشَّاهِدُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّأَمُّلِ لِيَقِفَ عَلَى صِفَةِ الْمَغْصُوبِ، فَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِالتَّوْفِيقِ هُنَاكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَاكَ فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَبِخِلَافِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَإِنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا بَعْدَ الْقُرْبِ مِنْهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُشْتَبَهُ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْفِيقِ
(قَالَ) وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَرَوِيٌّ وَقَالَ الْآخَرُ: مَرْوِيٌّ، فَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْهَرَوِيَّ وَالْمَرْوِيَّ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَبَيَانُ الْجِنْسِ مِنْ صُلْبِ الشَّهَادَةِ فَكَانَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي صُلْبِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِعْلٌ وَالْفِعْلُ الْمَوْجُودُ فِي وَقْتٍ غَيْرُ الْمَوْجُودِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يُمْتَنَعُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا - كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ
(قَالَ) وَإِذَا سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَمَا شَقَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ عِنْدَ تَمَامِ السَّرِقَةِ وَتَمَامُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُ نِصَابًا عِنْدَ الْإِخْرَاجِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَقَّةَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ مِنْ النِّصَابِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَرِقَتَهُ تَمَّتْ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ ثُمَّ التَّعَيُّبُ تَفْوِيتُ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْكُلَّ بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ، فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّتَ جُزْءًا مِنْهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِخْرَاجِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute