لَا نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ دِمَائِهِمْ وَدِمَاءِ غَيْرِهِمْ بَلْ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَبِقَوْلِهِ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ فَإِنَّ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ الْعَبِيدُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَاهُ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَقْرَبُهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَنْ يَسْكُنُ الثُّغُورَ مُشْتَقٌّ مِنْ الدُّنُوِّ وَهُوَ الْقُرْبُ لَا مِنْ الدَّنَاءَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: ٩] وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَقَلُّهُمْ فِي الْقُرْبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْقِلَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} [المجادلة: ٧] فَيَكُون ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْوَاحِدِ، أَوْ الْمُرَادُ بِهِ الْفَاسِقُ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْسُبَ الْعَبْدَ الْوَرِعَ إلَى الدَّنَاءَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ عَقْدُ الذِّمَّةِ دُونَ الْأَمَانِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَنَا.
وَعَنْ أَبِي عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُقَسِّمُ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لِي: تَقَلَّدْ هَذَا السَّيْفَ فَتَقَلَّدْتُهُ فَجَرَرْتُهُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَعْطَانِي مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعَ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ يَأْبَى اللَّحْمَ فَسُمِّيَ بِآبِي اللَّحْمِ وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى صِغَرِهِ لِأَنَّ جَرَّ السَّيْفِ عَلَى الْأَرْضِ لِصِغَرِهِ وَقِيلَ: لَا بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْخُيَلَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِصِغَرٍ أَوْ رِقٍّ فَإِنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعِ يَعْنِي الشَّفَقَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الرَّضْخِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحَرَّمِ لِمُسْتَهَلِّ الشَّهْرِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَفَتَحَهَا يَعْنِي الطَّائِفَ فِي صَفَرٍ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّ الْمُحَاصَرَةَ مِنْ الْقِتَالِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ فَفِعْلُهُ بَيَانُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَدْ انْتَسَخَ، وَكَانَ الْكَلْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ بَلْ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: النَّهْيُ عَنْ الْقَنَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى {فاُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: ٥]. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَانْتَسَخَ بِهِ مَا كَانَ مِنْ الْحُكْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: ٢١٧] الْآيَةُ.
(فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: ٥] الْآيَةُ.
(قُلْنَا): الْمُرَادُ بِهِ مُضِيُّ مُدَّةِ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: ٢] وَوَافَقَ مُضِيُّ ذَلِكَ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَوْله تَعَالَى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: ٣٦] إلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute