للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التَّفَكُّرِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمُهْلَةٍ، فَإِنْ اسْتَمْهَلَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُمْهِلَهُ، وَمُدَّةُ النَّظَرِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي الْخِيَارِ فَلِهَذَا يُمْهِلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ التَّأْجِيلَ يُقْتَلُ مِنْ سَاعَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ.؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتُمْ بِهِ.؟ قَالَ: قَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ، فَقَالَ: هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ الْبَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَمَيْتُمْ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِرَغِيفٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَشْهَدْ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ وُلِّيتُ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتُمْ لَاسْتَتَبْتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْتُهُ، فَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِمْهَالُ، وَتَأْوِيلُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَعَلَّهُ كَانَ طَلَبَ التَّأْجِيلَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لَهُ شُبْهَةٌ وَيَتُوبُ إذَا رُفِعَتْ شُبْهَتُهُ، فَلِهَذَا كُرِهَ تَرْكُ الْإِمْهَالِ وَالِاسْتِتَابَةِ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الدِّينِ، وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فَالْإِشْرَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ تَعَنُّتًا، وَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ طَلَبُ التَّأْجِيلِ، وَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ قَدْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَتَجْدِيدُ الدَّعْوَةِ فِي حَقِّ مِثْلِهِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَهَذَا كَذَلِكَ، فَإِنْ اُسْتُتِيبَ فَتَابَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَلَكِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَيَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ أَوْ يَتَبَرَّى عَمَّا كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَإِنَّ تَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِيِّ التَّبَرِّي عَنْ الْيَهُودِيَّةِ، وَمِنْ النَّصْرَانِيِّ التَّبَرِّي عَنْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمِنْ الْمُرْتَدِّ التَّبَرِّي عَنْ كُلِّ مِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ مِلَّةُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ.

فَإِنَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِذَا أَسْلَمَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: ٥]، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولَانِ إذَا ارْتَدَّ رَابِعًا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ، وَلَيْسَ بِتَائِبٍ، وَاسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: ١٣٧]، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ فِي حَقِّ مَنْ ازْدَادَ كُفْرًا لَا فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالْخُشُوعَ فَحَالُهُ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>