للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ هَذَا تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ تَمَامِ سَبَبِهِ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ جَمِيعًا، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ.

(فَإِنْ قِيلَ:) زَوَالُ مِلْكِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ بَلْ يَعْقُبُهُ، وَبَعْدَ الرِّدَّةِ هُوَ كَافِرٌ (قُلْنَا) نَعَمْ الْمُزِيلُ لِلْمِلْكِ رِدَّتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُزِيلَ لِلْمِلْكِ مَوْتُ الْمُسْلِمِ ثُمَّ الْمَوْتُ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْحَيِّ لَا عَنْ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُسْلِمِ، وَكَمَا أَنَّ الرِّدَّةَ تُزِيلُ مِلْكَهُ فَكَذَلِكَ تُزِيلُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تُزِيلُ الْعِصْمَةَ عَنْ مَعْصُومٍ لَا عَنْ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْكُفَّارُ؛ لِأَنَّ التَّوْرِيثَ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ، وَهُوَ دَلِيلُنَا، فَإِنَّهُ كَانَ تَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهِ حُكْمَانِ: حِرْمَانُ وَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ، وَتَوْرِيثُ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَقِيَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ بَعْدَ رِدَّتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبْقِي عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ أَحَدًا لِجِنَايَتِهِ، فَهُوَ كَالْقَاتِلِ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ لِجِنَايَتِهِ، وَيَرِثُهُ الْمَقْتُولُ لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِجَعْلِ مَالِهِ فَيْئًا، فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِرِدَّتِهِ حَتَّى لَا يَغْنَمَ فِي حَيَاتِهِ، وَالْمَالُ الْمُحْرَزُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ فَيْئًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ ثُبُوتُ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَغْنَمُ فِي حَيَاتِهِ لَا لِحَقِّهِ، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ بَلْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ قَالَ: يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ (قُلْنَا) الْمُسْلِمُونَ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، وَوَرَثَتُهُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَتُرَجَّحُوا عَلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ، وَذُو السَّبَبَيْنِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي سَبَبٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ أَوْلَى.

فَأَمَّا مَا اُكْتُسِبَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ فَيْءٌ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ يُوقَفُ عَلَى أَنْ يُسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي بِجَمْعِ الْكَسْبَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الرِّدَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ صَارَ بِهِ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ كَالْمَرِيضِ، وَالْمُكْتَسَبُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْمُكْتَسَبِ فِي الصِّحَّةِ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْوِرَاثَةُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِي بَقَاءَ الْمِلْكِ فَتُنَافِي ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَمَا اكْتَسَبَ فِي إسْلَامِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ إذَا تَمَّ انْقِطَاعُ حَقِّهِ عَنْهُ، وَكَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ لِقِيَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>