للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَتْلِهِمْ، فَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِلْخَوْفِ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ أَسِيرَهُمْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إعَادَةُ الذِّمِّيِّ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْمُفَادَاةِ بِأَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ بِأَسِيرِهِمْ، وَيَسْتَوِي إنْ طَلَبَ مُفَادَاةَ أَسِيرٍ أَوْ أَسِيرَيْنِ بِأَسِيرٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ لِقُوَّةِ قِتَالِ ذَلِكَ الْأَسِيرِ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَقْوِيَتُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا، ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأَسِيرِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: ٤] كِنَايَةً عَنْ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجَوِّزُ الْمُفَادَاةَ بِالْأَسِيرِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَاجَةُ إلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَحَقُّهُمْ فِي الِاسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَقَالَ: لَوْ انْفَلَتَتْ إلَيْهِمْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ فَأَخَذُوهَا فِي دَارِهِمْ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا أَخَذَهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلدَّابَّةِ فِي نَفْسِهَا فَتَحَقَّقَ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهَا بِالْأَخْذِ فِي دَارِهِمْ، بِخِلَافِ الْآبِقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.

وَإِنْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِ أَصَابَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَبِيعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ فِيمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ، وَفِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانِ إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ حَيْثُ مَا وَجَدَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ.

وَإِذَا أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ جَارِيَةً لِمُسْلِمٍ فَأَحْرَزُوهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ مُسْلِمٌ فَعَمِيَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يُعْطِيهِ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فِدَاءً، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ، وَالْفِدَاءُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ إذَا عَمِيَ عِنْدَ مَوْلَاهُ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ لَزِمَهُ الْفِدَاءُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي كَالْمَأْمُورِ مِنْ جِهَتِهِ بِالشِّرَاءِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فَعَمِيَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهَا فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَهَا، فَإِنَّ مَوْلَاهَا يَأْخُذُهَا دُونَ الْأَرْشِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ دَرَاهِمُ، وَدَنَانِيرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>