فِي الِانْتِهَاءِ يَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ إظْهَارِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ حَدِيثِ أُبَيٍّ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ قِيلَ: مَا وَجَدَهُ لَمْ يَكُنْ لُقَطَةً، وَإِنَّمَا أَلْقَاهَا مَلَكٌ لِيَأْخُذَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانُوا لَمْ يُصِيبُوا طَعَامًا أَيَّامًا وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، فَلِهَذَا تَنَاوَلُوا مِنْهُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُمْ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلِهَذَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشِّرَاءَ بِهَا لِحَاجَتِهِ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ اللُّقَطَةَ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَجَاءَ صَاحِبُهَا وَسَمَّى وَزْنَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَأَصَابَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِنْ شَاءَ الَّذِي فِي يَدِهِ دَفَعَهَا إلَيْهِ.
وَإِنْ شَاءَ أَبَى حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَ الْعَلَامَاتِ فَالْوَهْمُ الَّذِي سَبَقَ إلَى وَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ صَاحِبُهُ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِالظَّاهِرِ يَثْبُتُ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَازِعِ كَمَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِذِي الْيَدِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَثْبُتُ وَالْمُلْتَقِطُ غَيْرُ مُنَازِعٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى صَاحِبِهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ مَا أَشْهَدَ أَحَدًا عِنْدَ سُقُوطِهَا مِنْهُ، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا سَقَطَتْ مِنْهُ فَسَقَطَ اشْتِرَاطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِلتَّعَذُّرِ وَتُقَامُ الْعَلَامَةُ مَقَامَ ذَلِكَ كَمَا يُقَامُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إصَابَةُ الْعَلَامَةِ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ جُزَافًا، وَقَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَسْمَعُ مِنْ مَالِكِهِ يَنْشُدُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ عَلَامَاتِهِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ.
ثُمَّ الْمُلْتَقِطُ أَمِينٌ وَيَصِيرُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ ضَامِنًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الضَّمَانِ بِأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَيَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ بِحُجَّةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فَيَدْفَعَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَخَذَ مِنْهُ بِهَا كَفِيلًا نَظَرًا مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَلَعَلَّهُ يَأْتِي مُسْتَحِقُّهَا فَيُضَمِّنَهَا إيَّاهُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُخْفِي شَخْصَهُ فَيَحْتَاطُ فِيهَا بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُلْتَقِطَ، أَمَّا بَعْدَ التَّصْدِيقِ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، لَكِنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعَارَضُ بَيِّنَةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً فَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ دَفَعَ مِلْكَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ بِدَفْعِهِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ رَجَعَ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ بِإِصَابَتِهِ الْعَلَامَةَ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اعْتِمَادًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ، وَالْمُقِرُّ إذَا صَارَ مُكَذِّبًا فِي إقْرَارِهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَالرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ فِي وَكِيلِ الْمُودِعِ إذَا جَاءَ إلَى الْمُودَعِ وَقَالَ: أَنَا وَكِيلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute