فِي اسْتِرْدَادِ الْوَدِيعَةِ مِنْكَ فَصَدَّقَهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بِخِلَافِ وَكِيلِ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُلْزِمٌ، فَأَمَّا الْمُودِعُ يُقِرُّ لَهُ بِحَقِّ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ، فَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي اللُّقَطَةِ كَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: هُنَاكَ الْمِلْكُ لِغَيْرِ الَّذِي حَضَرَ ظَاهِرٌ فِي الْوَدِيعَةِ وَهُنَا لَيْسَ فِي اللُّقَطَةِ مِلْكٌ ظَاهِرٌ لِغَيْرِ الَّذِي حَضَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إقْرَارُ الْمُلْتَقِطِ مُلْزِمًا إيَّاهُ الدَّفْعَ إلَيْهِ، ثُمَّ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا صَدَّقَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمَّنَ الْمُودَعَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ، وَهُنَا لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي زَعْمِ الْمُودَعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِلْمُودِعِ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ بَلْ الْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، وَهُنَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ بَعْدَ مَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ضَمِنَ؛ لِهَذَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الْمُودِعُ مُنْكِرٌ الْوَكَالَةَ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْمُودَعِ بِالضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْوَكَالَةِ، فَلَا يَصِيرُ الْمُودَعُ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ حُكْمًا، وَهُنَا إنَّمَا يُقْضَى بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ فَيَصِيرُ هُوَ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ حُكْمًا، فَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ مِمَّا لَا يَبْقَى إذَا أَتَى عَلَيْهِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ عَرَّفَهَا حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ تَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْرِيفِ إيصَالُهَا إلَى صَاحِبِهَا، فَتُقَيَّدُ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ بِالْوَقْتِ الَّذِي لَا يَفْسُدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَسَادِ لَا فَائِدَةَ لِصَاحِبِهَا فِي إيصَالِهَا إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ بِهَا طَرِيقٌ لِحِفْظِهَا عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ فَيَصِيرُ إلَى ذَلِكَ إذَا خَافَ أَنْ تَفْسُدُ الْعَيْنُ، وَإِذَا وَجَدَ شَاةً أَوْ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ حِمَارًا فَحَبَسَهُ، وَعَرَّفَهُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، فَأَمَّا أَمْرُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ صَاحِبِهَا لِمَا لِلْقَاضِي عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ وِلَايَةِ النَّظَرِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْحَيَوَانِ بِدُونِ النَّفَقَةِ عَادَةً، فَإِنْ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ الْتَقَطَهَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ بَعْدَهَا فِي اللَّقِيطِ.
ثُمَّ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ نَظَرًا مِنْهُ لِصَاحِبِهَا، فَلَا يَأْمُرُ إلَّا فِي مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ رُبَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute