للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَنْ الْعُدْوَانِ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا قَدِمَ بِإِبَاقٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُعْلًا إنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الرَّادَّ مُثَابٌ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَصَابَ أَجْرًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ عَلَى مَوْلَاهُ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ أَخَذَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَفِي الْقِيَاسِ لَا جُعْلَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ فِي رَدِّهِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عَلَيْهِ عِوَضًا بِمُقَابَلَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ، وَلِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مُنْكَرٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِإِقَامَةِ الْفَرْضِ جُعْلًا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي مَجْلِسِهِ مَا قَالَ، وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَقَدْ عُرِضَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَالسُّكُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ ثُمَّ هُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ الْجُعْلِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دِينَارٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُودِ أَصْلِ الْجُعْلِ، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً، وَالْأَصْلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَتَى اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُوهُمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ أَقَاوِيلِهِمْ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنْ يُرَجِّحُ قَوْلَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ فِي إيجَابِ أَصْلِ الْجُعْلِ، وَرَجَّحْنَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مِقْدَارِهِ.

(فَإِنْ قِيلَ:) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَقَلِّ فِي الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ. (قُلْنَا:) إنَّمَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ مُمَكَّنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَقَلِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ، وَقَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَكْثَرِ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ كَمَا فَسَّرَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ كِنَايَةً عَمَّا دُونَهُ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، وَإِنْ أَخَذَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ كِنَايَةً عَنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ، وَمَتَى أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، ثُمَّ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقُولُونَهُ بِآرَائِهِمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ نَصْبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>