للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَا طَرِيقَ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ الْفَتْوَى إلَّا الرَّأْيُ أَوْ السَّمَاعُ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا هُنَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَوَى مَا قَالَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْأَكْثَرِ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَالْأَخْذُ بِأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَقَدْ قَامَتْ الشَّرِيعَةُ بِفَتْوَاهُمْ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ إلَّا أَحْسَنَ الْوُجُوهِ، وَلَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَابِحٍ، وَلَا يُصِيبُهُ كُلُّ طَالِبٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَى سِوَى مَا ذَكَرَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَيْ يَرُدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّادَّ يَحْتَاجُ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ فِي رَدِّهِ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ خَشْيَةً، فَفِي إيجَابِ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ تَرْغِيبٌ لَهُ فِي رَدِّهِ وَإِظْهَارِهِ الشُّكْرَ فِي الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ، وَلَا يُوجِبُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَرْضَخَ لِلَّذِي يَجِيءُ بِالْآبِقِ، وَلَمْ نَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلرَّادِّ دِينَارٌ إذَا أَخَذَهُ خَارِجًا مِنْ الْمِصْرِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَنَأْخُذُ بِذَلِكَ، وَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَيَسْتَقِيمُ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَلَّدُوهُ الْقَضَاءَ وَسَوَّغُوا لَهُ الْمُزَاحَمَةَ مَعَهُمْ فِي الْفَتْوَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَالَفَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنَّ مَسْرُوقًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي مُوجِبِ النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى قَوْلِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ الشَّافِعِيُّ اسْتَحْسَنَ بِرَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمَوْلَى خَاطَبَ قَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَدَّ مِنْكُمْ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَهَذَا شَيْءٌ يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْمَجْهُولِ لَا يَنْعَقِدُ، وَبِدُونِ الْقَبُولِ كَذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الثَّابِتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَيْرٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ الثَّابِتِ بِرَأْيِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: ٧٢] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ كَذَا وَلَمْ يُخَاطِبْ بِهِ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، ثُمَّ هَذَا تَعْلِيقُ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ وَهُوَ قِمَارٌ، وَالْقِمَارُ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا، وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا.

(وَإِنْ قَالَ:) اُعْتُبِرَ قَوْلُ الْمَالِكِ لِإِثْبَاتِ أَمْرِهِ بِالرَّدِّ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ ثُمَّ الْمَأْمُورُ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>