وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ يَعْتَمِدُ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ بِالنَّقْلِ، وَلَكِنْ فِيمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَأَتَّى يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ بِالسُّكْنَى وَإِخْرَاجِ الْمَالِكِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ الْإِشَارَةُ إلَى الْعَيْنِ فِي الْمَنْقُولِ الَّذِي يُمْكِنُ إحْضَارُهُ، ثُمَّ فِي الْعَقَارِ لَمَّا تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُقَامُ ذِكْرُ الْحُدُودِ مَقَامَهُ، وَشَرْطُ تَمَامِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ، ثُمَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ تُقَامُ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: إنَّ فِعْلَهُ فِي الْمَالِكِ هُنَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَهُ فَيَسْكُنُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ، وَهُوَ فَوْتُ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ وَثَمَرَاتِهِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِهَذَا، وَيَجُوزُ إقَامَةُ فِعْلِهِ فِي غَيْرِ الْمَضْمُونِ مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَضْمُونِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ فِعْلُهُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الْمَارِّ، ثُمَّ يُجْعَلُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَارِّ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ جَزَاءَ غَاصِبِ الْعَقَارِ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّمَانَ فِي الدُّنْيَا، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ جَمِيعُ جَزَائِهِ، وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ وَاجِبًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ أَمَسُّ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْبَيْعِ عَلَى الْحُرِّ بِقَوْلِهِ: مَنْ بَاعَ حُرًّا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمُوجِبَ لِحُكْمِهِ حَقِيقَةً يُتَصَوَّرُ فِي الْحُرِّ، وَكَذَلِكَ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّرِقَةِ عَلَى الْعَقَارِ كَمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْغَصْبِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ أَيْضًا، ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِحُكْمِهَا عَلَى أَنَّا نَقُولُ: يَتَحَقَّقُ أَصْلُ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ، وَلَكِنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ جُبْرَانًا لِلْفَائِتِ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ تَفْوِيتُ الْيَدِ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ مَتَى كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى مَالِهِ فِي مَكَان تَبْقَى مَا يَبْقَى الْمَالُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ حُكْمًا إلَّا أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ الْغَاصِبُ وَإِنْ سَكَنَ الدَّارَ فَالْمَالِكُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فَيَسْكُنَ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَذَلِكَ فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْمِلْكِ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَالِكِ لَا يُفَوِّتُ يَدَهُ عَنْ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَمَا لَوْ حُبِسَ الْمَالِكُ حَتَّى تَلِفَتْ مَوَاشِيهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمَنْقُولَ بِالتَّخَلِّي بِهِ قَبْلَ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ الْعَقَارُ.
وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ الْآخَرِ مَقَامَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ طَرِيقٌ فِيمَا يَأْذَنُ الشَّرْعُ فِيهِ أَنْ يُوجِبَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute