مُغْتَرٌّ بِنَفْسِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَتْرُكُهَا فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْغُرُورَ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ يَكُونُ سَبَبًا لِلرُّجُوعِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا، فَإِنَّ الْمُعِيرَ لَمْ يُبَاشِرْ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَإِنْ وَقَّتَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ: كَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَائِدَةِ مَا أَمْكَنَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْقِيتِ فِي تَصْحِيحِ الْعَارِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِذِكْرِ الْوَقْتِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ إذَا أَرَادَ إخْرَاجَهُ قَبْلَهُ، وَصَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: ابْنِ لِي فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لِنَفْسِكَ عَلَى أَنْ أَتْرُكَهَا فِي يَدِكَ إلَى كَذَا مِنْ الْمُدَّةِ، فَإِنْ لَمْ أَتْرُكْهَا فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ مَا تُنْفِقُ فِي بِنَائِكَ، وَيَكُونُ بِنَاؤُكَ لِي، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي الْإِخْرَاجِ ضَمِنَ قِيمَةَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ، وَيَكُونُ كَأَنَّهُ بَنَى لَهُ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهَا، وَلَا يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهَا فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَى الْمُعِيرِ لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ كَانَ هُوَ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ يَرْفَعُهُ بِتَفْرِيغِ مِلْكِ الْغَيْرِ. (وَقِيلَ:) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْعِ الْأَشْجَارِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِالْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْفَعَهَا بِغَيْرِ رِضَا الْمُعِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ، وَلَكِنْ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ.
وَإِنْ كَانَ أَعَارَهُ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَهَا وَوَقَّتَ لِذَلِكَ وَقْتًا أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ وَقْتًا، فَلَمَّا تَقَارَبَ حَصَادُهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّارِعَ زَرَعَ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَازِمٍ لَهُ فِيهَا، فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ كَالْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ إذَا زَرَعَهَا، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَأْخُذُهَا صَاحِبُهَا إلَى أَنْ يَحْصُدَ الْمُسْتَعِيرُ زَرْعَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الزِّرَاعَةِ بِجِهَةِ الْعَارِيَّةِ، وَلِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَلَوْ تَمَكَّنَ الْمُعِيرُ مِنْ قَلْعِ زَرْعِهِ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُسْتَعِيرِ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ، وَلَوْ تُرِكَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُعِيرِ مِنْ حَيْثُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ، وَضَرَرُ الْإِبْطَالِ فَوْقَ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِضْرَارِ بِأَحَدِهِمَا تَرَجَّحَ أَهْوَنُ الضَّرَرَيْنِ. بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيَكُونُ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ضَرَرُ إبْطَالِ الْحَقِّ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ صَاحِبِ الْأَصْلِ عَلَى جَانِبِ صَاحِبِ التَّبَعِ، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ فِي الزِّرَاعَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِ التَّعَدِّي إبْقَاءَ زَرْعِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْأَرْضَ تُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الزَّرْعِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ نُقِلَ بَعْدَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَنْ مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ مَجَّانًا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute