الْمُرْتَدَّ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ)؛ فَهُوَ مَوْقُوفٌ " عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ، وَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَبْطُلُ إذَا قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالشَّرِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ تَصَرُّفَاتِهِ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَرِكَةُ الْعَنَانِ مِنْهُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ رِدَّتِهِ قَبْلَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ نَافِذٌ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ مَوْتًا، وَلُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ، وَالْمَوْتُ مُبْطِلٌ لِلشَّرِكَةِ. وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُرَادُ بِهِ تَوَقُّفُ أَصْلِ الشَّرِكَةِ " عِنْدَهُمَا " بَلْ الْمُرَادُ تَوَقُّفُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ. فَأَمَّا أَصْلُ الشَّرِكَةِ صَحِيحٌ " عِنْدَهُمَا "، وَإِنَّمَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَرِيضِ، وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرْتَدُّ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى إسْلَامِهِ. وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ الْكَفَالَةُ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي التَّصَرُّفِ إلَّا أَنَّ نَفْسَهُ تُوقَفُ بَيْنَ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ تَتْلَفَ عَلَيْهِ إذَا أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ الْمُفَاوَضَةُ مِنْهُ.
قَالَ: (وَإِنْ شَارَكَ الْمُسْلِمُ الْمُرْتَدَّةَ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ؛ جَازَتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَلَمْ تَجُزْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ إلَّا أَنْ تُسْلِمَ)؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذٌ، فَإِنَّ الْمَالَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهَا لِأَنَّ نَفْسَهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ بِالرِّدَّةِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ. فَكَذَلِكَ فِي مَالِهَا إلَّا أَنَّهَا كَافِرَةٌ فَهِيَ كَالذِّمِّيَّةِ. وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ. فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدَّةِ. قَالَ: (وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاوَضَةُ جَائِزَةً مَعَ الْكَرَاهَةِ)؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ. فَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مُفَاوَضَتَهُمَا تَتَوَقَّفُ كَمَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَةُ الْمُرْتَدِّ مَعَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا - وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْبَلُ - فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ، وَإِذَا أُلْحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَنَفْسُهَا مَوْقُوفَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَتُهُمَا.
قَالَ: (وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ؛ فَلِلْمُفَاوِضِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَبَيَانُ هَذَا: أَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ، وَإِقْرَارَ الْوَصِيِّ بِالدَّيْنِ عَلَى الْيَتِيمِ غَيْرُ صَحِيحٍ. ثُمَّ الْكِتَابَةُ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْأَدَاءِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْعَبْدِ - وَهُوَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ - صَحِيحَةٌ، فَصِحَّتُهَا مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمْلِكُ نِصْفَ الْعَبْدِ - وَهُوَ الْمُفَاوِضُ - أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ: فَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى - فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرَ، وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ وَمِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ الْمَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ. أَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ بِمَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَجَّلُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ لَا يُدْرَى أَيَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ لَا يَقْدِرُ؟ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُفَاوِضُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدًا مِنْ تَرِكَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ تَحْصِيلُ الْمَالِ، بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ رَقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِغَالِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. فَلَا يُمَلَّكُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِدُونِ إذْنِهِ. وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ عُقُودِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute